- تمرّ بنا أيّام تنسدّ فيه الآفاق، وتنعدم فيها الخيارات، وتشتد فيها الفتنة، وتَعْمَى فيه أبصار التجربة، وينصرف فيها الحكماء عن لقاء الناس خوف السؤال، إذ لا مخرج منظور ولا منفذ مأمول، فيصبح المرء هنا مسؤول نفسِه، وقائد خيارِه.
- وخير ما يمكن للمرء أن يميل إليه في تلك الأحوال أن ينحاز إلى العزيمة التي فيها إعزاز نفسِه، وإكرامُ ثباتِها ومجازاة ُصبرِها إذ لا شيء يخسره، ولا راحةَ في الانتظار ولا خيار.
- والمرء الحُرّ إذا وصل إلى حافّة المصير لا يدخل إلا من أشرف أبوابه، وأعزّ مداخله: (ديارَكم تُكْتَبْ آثارُكم)، والمشقّة هنا هي مدخل الراحة وقوّة الإرادة ومبلغ الأجر: (إن أعظمَكم أجراً أبعدُكم داراً).
- وفي كتاب الله نجد قوله سبحانه: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) فقد جعل الله التكليف بالقتال لرسوله ولو كان وحيداً، لأنّه يعلم الحقّ، ومن استبان له الحقّ وجب عليه بلوغُه، وأمره أن يحرّض المؤمنين معه، وألّا يدع القتال حتى لو لم يستنفر معه أحد، فالمسؤولية هنا فرديّة كما هي جماعيّة.
- وقد حاولت قريش أن تتخلف عن حضور “بدر الموعد” بعد معركة أحد انتقاماً لمن قُتلوا منهم في بدر، وبثّت قريشٌ الأراجيفَ مع نعيم بن مسعود الأشجعيّ، وكره الناس الخروج، وتردّدوا إلا نفراً قليلاً، ولهذا قال لهم رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه: (والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي) فخرج ومعه سبعون راكباً يقولون : (حسبنا الله ونعم الوكيل) حتى وافى بدراً، فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، لكنّه لم يحضر فعاد رسول الله ظافراً وقد كفّ الله عنه بأس الذين كفروا.
- وبما أنّك أيها المقاتل قد أجبتَ داعي الله، والتزمت بما أوجبه عليك، واستحضرتَ سبيله وسلكتَ فيه: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) فقاتلتَ، فإنّك بين أمرين تجد في كليهما الأجر العظيم : (ومَن يقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يَغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).
- وفي هذه الآية تجد ترتيباً عجيباً فقد قَدّمت الآيةُ مقتلَ المقاتل على غَلَبته، وكأنّ الشأنَ فيها يكون إذا ظنّ المقاتلُ أن فرصته في الظفر بهذه الحرب الحتميّة غير مؤاتية، ومع ذلك فإنه يقاتل وهو يعلم أنّه مقتول، وقد استوى أمر الحياة والموت عنده، وهو في حال رحيله مأجور، وفي حال نصره مأجور، وأما إن اختار الهزيمة ابتداءً فليس ثمّة حياة في الذل، وذلّ الآخرة أشد من ذلّ الدنيا .
- ومن شواهد هذا الفهم قول رسول الله لقريش يوم الحديبية كما في الصحيحين: ( إنا لم نجِئ لقتال أحدٍ، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاءوا مادَدتّهم مُدّة ، ويُخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهرْ فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فَعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوْا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، وليُنْفِذَنَّ اللهُ أمرَه)، والشاهدُ أن رسول الله أعلن أنّه إن ظهر على قريش فخيارُهم أن يسلموا، وإن لم يظهرْ عليهم فقد استراحوا وهو ما يبغونه؛ وإن أبَوا وامتنعوا إلا أن يقاتلوا رسول الله فإنه سيقاتل حتى تنفرد سالفته وتنفصل رقبته عن رأسه أو يموت منفرداً في قبرٍ ليس فيه غيره؛ وفي النهاية فإن أمر الله ماضٍ ونافذ لا رادّ له.
9.