أنت طاهرٌ وبريءٌ وحُرٌّ ومظلوم، لكنك أيضاً مأسورٌ في فقّاعة غضبٍ منفوخة بيضاء توجّهك نجومُها اللامعةُ المنقوطةُ في غير منجم الغضب الذي يشتعل فيك.
المذهبيّة في أصلها طريقةٌ في التعبئة، ونمطٌ من أنماط الاستدامة، وهي مولود ثائرٌ متمرّد، وعندما تولَد تقف على قدميها بسرعة وتطلق ساقها للريح، وإذا استُثمرت في سياق استراتيجيّ موزون فإنها كالنبع الفيّاض المتصل المدَد.
وأمّا إذا صاغت العواطف الشخصيّة والمواقف الانفعالية مسالكها الجماعيّة فإنها تنقلب في أيديهم إلى كيانات حمقاء عمياء، فهي في طبيعته المتمرّدة تُدار كما تُدِير، وتَقْلب كما تَنقلب وتُقْلَب، وتَعبث كما يُعبَث بها، وهي أيضاً بريئة صادقة، وتصدّق كلّ من يمنحها قطعة حلوة أو يبتسم لها برفق وتَحْنان، وتتغيّر إذا طَلبت منها اللافتاتُ المنصوبة على الطريق التي وُضعت فيه أن تتغيّر.
وأخطر عمليات التوجيه لهذه العصبيات ما اتّخذ أشكالاً سياسيّة تحريضية تسكت عن أشياء وتستبيح أشياء أخرى تشبهها تماماً؛ فلا ترى عيونُها إلا الإشارات التي توجّهها إلى مسار العبور المرسوم لها، وستجد في طريقها محطات وقود تزيد شحنَها بالغضب وروحِ الانتقام وأشباحِ الدماء التي تتراءى لها.
هذه المذهبيات السياسيّة الموجّهة إلى العامّة هي من أيسر الاختيارات في المعاملات وأسهلها وصولاً، وهي كذلك شديدة الإغراء عند دخول العامّة عليها، وكلما دخلتَ عليها أكثر أغرتْك أكثر، حتى تحيط بك من كل جانبٍ، وتتلبّسك، وتضرب أوتادها في عقلك وفؤادك، ثمّ تفتح عليك ما تشاء من مخارج موهومة تتحوّل إلى متاهات المرايا العاكسة التي تحبسك في ظلالها.
هذه المذهبيّة السياسيّة ذكيّة فحسب في قدرتها على التمدد والتوسع والانتشار، ولديها قابليّة مفرطة للنماء والتكيّف والاستجابة للجهات التي تتحكّم في منصاتها، ولديها شراهة في الابتلاع والاحتواء، ولكنها عمياء غبية في اتجاهاتها التي لم تكن شريكةً في شقّ طرقها، ولا رسمِ مساراتها، فتنجرف فيها بلا هدى ولا إرشاد سوى إلحاح براءة العاطفة المستعِرة، ومنطق مقدّمات الانطلاقة الجاهزة ومضامينها التأسيسية.
وهناك دوماً أضواء وأصوات ترشِّح لك – باختيارك البريء- سبيلَ مذهبِك، وتحدّد لك مسار عبورك، وتضع لك غاية أهدافك، وتُحلّي لك طعمَ خيارٍ هنا، وتجعل المرار في خيار آخر، أو تؤخر ظهور خيار ثالث ليعيش في قائمة انتظارك الطويل، فترى نفسك بعد حين متطرّفاً لئيماً وقحاً، فقد تمكّنت المذهبيةُ منك بقرار يرسمه أحدٌ لك أو يوجّه أولوياتك، ويحدد لك الأهداف التي ستصوّب عليها، ويعمي عنك الأهداف الواجبة الأخرى، ويصرفك عن الطرق الموازية التي ستفتح عينيك عندما تقترب منها.
لقد صار للمذهبيّة السياسية عندك عقلٌ ماكرٌ ويدٌ باطشة ولسانٌ لاحنٌ؛ وصار لها نماذج حيّة تتنفّس، وأمثال سائرة تحكي تجاربها، ومنازل ظاهرة ترسم عناوينها، وشعائر معظّمة لها معابدُها.