حين نتأمل في التاريخ الإنساني، نجد أن الأزمات كانت جزءًا لا يتجزأ من العلاقات بين الدول والشعوب. وبينما تُخاض الحروب عادةً لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، تبقى الدبلوماسية الخيار الأكثر رُقيًّا وأقل كُلفة لتحقيق نفس الأهداف دون إراقة دماء أو دمار شامل.
الدبلوماسية: تعريف وأهمية
الدبلوماسية، ببساطة، هي فن إدارة العلاقات الدولية بالحوار والتفاوض، بعيدًا عن العنف. هي الأداة التي تستند إليها الدول لصياغة اتفاقات، وحل نزاعات، وتفادي الحروب، وبناء جسور التعاون. وقد كانت عبر العصور الوسيلة المفضلة – وإن لم تكن دائمًا المعتمدة – لتجنب المواجهات الدموية.
الدبلوماسية كخيار لإنهاء الحرب: هل هي فعلاً فعّالة؟
رغم أن الدبلوماسية تُعد خيارًا آمنًا ومثاليًا لإنهاء الحروب، إلا أن الواقع يقول إن العديد من الحروب لم تنتهِ بها، بل انتهت باحتلال أراضٍ، أو سقوط أنظمة، أو تقسيم دول، أو فرض أمر واقع جديد. الحروب الكبرى، مثل الحرب العالمية الثانية، لم تنتهِ باتفاق دبلوماسي، بل باستسلام الطرف الخاسر بعد دمار هائل. والعراق مثلًا لم تنتهِ أزمته في 2003 عبر دبلوماسية، بل باجتياح عسكري أمريكي وإسقاط النظام بالقوة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الدبلوماسية لعبت أدوارًا حاسمة في إخماد كثير من الصراعات، أو على الأقل في الحد من تداعياتها. فمثلاً:
• اتفاقية كامب ديفيد (1978) أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، وجنّبت المنطقة مزيدًا من الدمار.
• اتفاق الطائف (1989) أنهى الحرب الأهلية اللبنانية بعد سنوات دامية.
• الاتفاق النووي مع إيران (2015) – رغم تعثره لاحقًا – كان نتاج جهود دبلوماسية مكثفة حالت دون تصعيد خطير في المنطقة.
حروب لم تُنهها الدبلوماسية
• الحرب في سوريا، التي بدأت منذ 2011، لم تجد طريقها إلى حل دبلوماسي شامل رغم كثافة المفاوضات.
• الصراع في اليمن، ورغم المبادرات المتكررة، لم تنتهِ دبلوماسيًا حتى الآن، وإن بدأت مؤخرًا محاولات لخفض التصعيد.
• الحرب الروسية الأوكرانية (2022-) تُعد مثالًا حيًا على إخفاق المسار الدبلوماسي في منع الحرب، ثم في إيقافها.
الحرب الحالية بين إيران وإسرائيل: إلى أين؟
اليوم، نعيش واحدة من أخطر مراحل التصعيد بين إيران وإسرائيل، حيث تتبادل الدولتان التهديدات والضربات عبر ساحات متعددة: من سوريا ولبنان، إلى البحر الأحمر، وحتى الداخل الإيراني والإسرائيلي نفسه. حرب الظل الطويلة بين الطرفين تحولت إلى مواجهة أكثر انفتاحًا، وبات خطر التوسع الإقليمي والتورط الدولي حاضرًا في كل لحظة.
فهل يمكن للدبلوماسية الخليجية والعربية أن تتحرك قبل فوات الأوان؟
قراءتي الشخصية، أن نهاية هذه الحرب لن تكون تقليدية. فطبيعة الطرفين لا تسمح بتنازلات جوهرية: إيران تعتمد خطابًا عقائديًا واستراتيجيًا تعتبر فيه زوال إسرائيل جزءًا من مبدأ، وإسرائيل تعتبر البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا لا يقبل التفاوض عليه.
ومع ذلك، أؤمن أن الدبلوماسية الخليجية والعربية قد تكون الورقة الأخيرة الممكنة قبل الانفجار الشامل. وقد تكون دول مثل قطر، بما لها من تجارب ناجحة في الوساطة، قادرة على فتح قنوات خلفية للحوار، إن توفرت لها الإرادة السياسية والتنسيق الإقليمي والدولي.
دور قطر والدبلوماسية الخليجية: نموذج يُحتذى
عربيًا وخليجيًا، تُشهد لقطر ريادة دبلوماسية واضحة في حل النزاعات. فقد قامت بالوساطة في أكثر من أزمة، سواء عربية أو دولية. على سبيل المثال:
• رعت اتفاق الدوحة (2008) لإنهاء الأزمة السياسية في لبنان.
• تدخلت في ملف دارفور وساهمت في التوصل إلى اتفاق سلام.
• سعت للوساطة بين الفصائل الفلسطينية، بل واستضافت محادثات غير معلنة بين خصوم سياسيين.
• في الملف الأفغاني، كانت الدوحة مقرًا لمفاوضات طالبان والولايات المتحدة، والتي انتهت باتفاق تاريخي في 2020.
إن هذا الدور القطري ليس نابعًا من فراغ، بل من وعي سياسي ودبلوماسي بأن أمن الخليج مرتبط ارتباطًا مباشرًا بما يحدث في المنطقة. فكل اشتعال في الجوار يُعتبر تهديدًا مباشرًا لدول الخليج، سواء على الصعيد الأمني أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
الدبلوماسية ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية
ما يجب أن نؤمن به هو أن الدبلوماسية ليست مجرد خيار أخلاقي راقٍ، بل هي ضرورة وجودية في عالم معقّد متداخل المصالح. فكل حرب تحمل معها كوارث بشرية، ودمارًا اقتصاديًا، وتشريدًا للملايين، وانهيارات نفسية وأخلاقية لا تُرمم بسهولة.
حتى في حالة اندلاع الحرب، يمكن للدبلوماسية أن تلعب دورًا في تقليل الخسائر، وفتح ممرات إنسانية، والتفاوض على وقف إطلاق نار مؤقت، أو تهدئة الأوضاع بما يمنح فرصة للحل النهائي. ولهذا نجد أن المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، تُولي أهمية كبرى للوساطة والمفاوضات في كل أزمة تقريبًا.
رغم أن الدبلوماسية لا تنجح دائمًا، إلا أن البديل عنها، وهو الحرب، غالبًا ما يكون مأساويًا. نحن بحاجة إلى تعزيز ثقافة الحوار والتفاهم والوساطة، والتعلم من تجارب الأمم التي استطاعت أن تجنب شعوبها الويلات عبر طاولة التفاوض، لا عبر فوهة البندقية.
ولعل دور الخليج العربي، وقطر على وجه الخصوص، يشكل مصدر فخر وإلهام لما يمكن للدبلوماسية أن تحققه، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والنية الصادقة. فالسلام لا يُصنع فقط بغياب الحرب، بل بحضور العدالة والاحترام المتبادل، وهذا جوهر الدبلوماسية الحقيقية .