قطر اليوم تمتلك أحد أفضل الأنظمة الصحية في المنطقة
هذه زاوية نطل بها على مختلف قضايا الساعة عبر حوارات سريعة نحاول من خلالها عبر ” لقاء اللواء” ان نسلط الضوء على الحقيقة وكل جديد في السياسة والرياضة وكل قضايا الوطن والمواطن . وضيفنا اليوم هو سعادة الدكتور عبد الرحمن بن سالم الكواري وزير الصحة القطري الأسبق.
حاوره: أحمد القوبري
✅ د. عبدالرحمن، بدايةً نود أن نعود معكم إلى فترة توليكم حقيبة وزارة الصحة، كيف تصفون تلك المرحلة من حيث التحديات والإنجازات؟
تولّيت وزارة الصحة في عام 1996 في مرحلةيمكن أن أصفها بأنها مرحلة تأسيس وتحول في آن واحد ، كان أمامنا نظام صحي قدّم الكثير،لكنه يواجه تحديات جديدة؛ فالنمو السكاني كان سريعًا، وتزايدت أعداد المقيمين من جنسيات متعددة، وبدأ عبء المرض يتضاعف، فبالإضافة الى الأمراض المعدية التقليدية برزت الأمراض المزمنة المرتبطة بنمط الحياة.
1. من الناحية التمويلية، كانت حصة الصحة من الإنفاق الحكومي في تلك السنوات في حدود5% من الموازنة العامة، وهي نسبة متواضعة جداً إذا قارنّاها بحجم الطموح وبمجانية الخدمات للمواطنين والمقيمين، لكن كان هناك التزام سياسي واضح بالاستثمار في الصحة،واستطعنا أن نحافظ على مجانية الخدمةللمواطنين، مع إدخال نظام بطاقات الصحةللوافدين في نهاية التسعينات لتخفيف الضغط على الميزانية دون المساس بجوهر العدالة في الوصول إلى الخدمة.
أهم التحديات في تلك الفترة كانت تتمثل في:
• تطوير البنية التحتية والمرافق بما يتناسب مع التوسع السكاني.
• استقطاب وتأهيل الكوادر الطبية والتمريضية والتخصصية.
• الانتقال من منطق “علاج المرض” إلى منطق“الرعاية الصحية الشاملة والوقاية”، خاصة في الأمراض المزمنة.
• تحديث الإطار التشريعي والرقابي الذي ينظّم تقديم الخدمة الطبية داخل الدولة.
وعلى مستوى الإنجازات، أستطيع القول إننا وضعنا خلال 1996–1999 عددًا من اللبنات المهمة؛ من بينها:
• إصدار القانون رقم (7) لسنة 1996 لتنظيمالعلاج الطبي والخدمات الصحية داخل الدولة،بما عزز الإطار القانوني لدور الوزارة وتنظيم العلاقة بين القطاع الحكومي والجهات الأخرى.
• إصدار تشريعات مهمة مثل قانون حظر التدخين في مرافق وزارة الصحة، وقانون تنظيم نقل الأعضاء، وهي قوانين مبكرة نسبيًا في المنطقة وتعكس اهتمامًا مبكرًا بعوامل الخطورة وبأخلاقيات الممارسة الطبية.
•تنظيم اللجنة الطبية وتقنين العلاج في الخارج .
• تعزيز خدمات الرعاية الصحية الأوليةوتوسيع نطاقها، مما انعكس على مؤشرات صحة الأم والطفل؛ حيث انخفضت وفيات الرضّع والأطفال، وبلغت تغطية التطعيمات نسبًا تجاوزت 90%، ووصلت نسبة الولادات تحت إشراف طبي إلى مستويات تقارب المئة بالمئة، معمعدلات منخفضة جدًا لوفيات الأمهات والأطفال مقارنة بالمنطقة.
• حوالى 1400 سرير في المستشفيات بنهايةالتسعينات، مع تخطيط لمستشفيات تخصصية إضافية.
باختصار، تلك الفترة كانت مرحلة بناء أساسات:
ثبتنا فيها الإطار التشريعي والتنظيمي، وعزّزنا فيها الرعاية الأولية ومؤشرات صحة الأم والطفل،و بدأنا التفكير مبكرًا في استدامة تمويل الخدمات. وربما لم تكن فترة إنجازات“استعراضية”، لكنها كانت مرحلة وضع قواعدالإستراتجية والخطط التي استفاد منها النظام الصحي في المراحل اللاحقة.”
تطور القطاع الصحي
✅ كيف تقيّم تطور القطاع الصحي في قطر بينالأمس واليوم؟
عندما ننظر إلى القطاع الصحي في قطر بين الأمس واليوم، نستطيع القول بثقة إننا انتقلنا من مرحلة تلبية الاحتياج الأساسي إلى مرحلة الريادة الإقليمية والمعايير العالمية.
في الماضي وأتحدث هنا عن فترة التسعينات ، كان الهدف الأول هو بناء البنية التحتية الأساسية، وتوفير الخدمات الطبية الأساسية،وضمان وصول المواطنين والمقيمين إلى رعاية آمنة وذات جودة ، كانت المستشفيات قليلة نسبيًا، والكوادر محدودة، والأمراض المعدية والتحديات الوقائية هي ما يشغل النظام الصحي.
أما اليوم، فقد تغيّر المشهد بشكل جذري:
• لدينا منظومة صحية متكاملة تحوي مرافق تخصصية متقدمة مثل سدرة، مؤسسة حمد،مؤسسة الرعاية الأولية، ومراكز متطورة في القلب والسرطان والنساء والأطفال.
• التحول أصبح من “الطب العلاجي” إلى“الطب الوقائي” و “الصحة العامة” و الرعاية المستدامة”.
• ازداد الاستثمار في البحوث الطبية،والتعليم الصحي، والاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والسجلات الصحية الإلكترونية الموحدة.
• ظهر تركيز واضح على جودة الخدمة، وسلامة المرضى، وتجربة المستفيد، وليس فقط تقديم الخدمة.
أضف إلى ذلك أن التوسع السريع في عدد السكان رافقه توسع مواكب في عدد المرافق والكوادر والتخصصات الدقيقة، مما جعل قطر اليوم تمتلك أحد أفضل الأنظمة الصحية في المنطقة من حيث الكفاءة، سرعة الحصول على الخدمة، الاعتماد على البيانات والاستثمار في الصحة الوقائية.
بمعنى آخر ؛ الأمس كان مرحلة تأسيس وبناء حجر الأساس ، أما اليوم فهو مرحلة نضج وتوسع وابتكار، مع توجه واضح نحو المستقبل الرقمي، وصحة المجتمع، واستدامة الخدمات.
وأنا أعتقد أن أهم تطور حدث هو الانتقال من التفكير في “المستشفى” إلى التفكير في“الصحة” نفسها ، من معالجة المرض ، إلىحماية الإنسان قبل أن يمرض.
المنظومة الصحية
✅ ما الذي تفتقده المنظومة الصحية اليوم في رأيك؟
رغم التطور الكبير الذي حققته المنظومة الصحيةفي قطر، فإن أي نظام صحي متقدم يظل في حالة تطوير مستمر، وهناك دائمًا مجالات يمكن تعزيزها لتلبية الاحتياجات المتنامية للمجتمع ،وفي رأيي، ما ينقص المنظومة اليوم يتمثل ف يأربعة محاور أساسية:
1) ربط أقوى بين مستويات الرعاية الصحية الثلاثة
ما زلنا بحاجة إلى منظومة أكثر تكاملًا بين الرعاية الأولية (المراكز الصحية) والرعايةالثانوية(المستشفيات) و الرعاية التخصصية المتقدمة.
هذا التكامل يضمن:
• مسارًا واضحًا لرحلة المريض
• عدم تكرار الفحوصات
• تقليل الضغط على المستشفيات
• تعزيز دور الرعاية الأولية كمستوى أو للدخول الى النظام الصحي.
2) توسعة أكبر في التخصصات الدقيقة والنادرة
خاصة في:
• طب الشيخوخة • الصحة النفسية
• إعادة التأهيل المتقدم • أمراض الأعصاب الدقيقة
• الرعاية المنزلية طويلة الأمد
هذه التخصصات أصبحت حاجة يومية مع ازدياد متوسط العمر وأعباء الأمراض المزمنة.
3) تعميق التكامل بين القطاع الصحي الحكومي والقطاع الخاص
القطاع الخاص اليوم عنصر مهم لكنه ما زال غير مستغل بالشكل الأمثل.
نحن بحاجة إلى:
• رؤية مشتركة تربط أهداف القطاعين
• آليات إحالة واضحة بين المراكز الحكومية والعيادات الخاصة
• تشارك في البيانات والمعلومات الصحية
• تفعيل الشراكات الذكية في التخصصات الدقيقة والرعاية المنزلية
وجود قطاع خاص قوي يعني تخفيف الضغط على المستشفيات الحكومية، ورفع جودة الخدمات، وتسريع الوصول للرعاية.
4) إشراك المجتمع بصورة أوسع في الصحة الوقائية
لا يزال الجانب الوقائي بحاجة إلى:
• حملات توعية مستمرة • برامج سلوكية لتغيير نمط الحياة
• مبادرات لصحة الأسرة والمدارس
• شراكات مع الإعلام الصحي الرقمي .
فالصحة المجتمعية هي أساس أي منظومة ناجحة، وهي أقل تكلفة وأكثر تأثيرًا من العلاج.
الخلاصة
المنظومة الصحية في قطر تسير في الاتجاه الصحيح، لكنها تحتاج اليوم إلى:
مزيد من التكامل، ومزيد من التخصص، ومزيد من الشراكة مع المجتمع.
وبتحقيق هذه العناصر سنقترب أكثر من نموذج صحي متكامل ومستدام يرتكز على جودة الحياة وليس العلاج فقط.
✅ كيف تنظر للتجربة السابقة للتأمين الصحي في الدولة؟ وما رؤيتكم لإعادة تفعيله في العام القادم بما يضمن كفاءة الخدمة؟
التجربة السابقة للتأمين الصحي كانت خطوة شجاعة وضرورية في مسار تطوير النظام الصحي في الدولة ، ورغم التحديات التي واجهتها في بداياتها وهي تحديات طبيعية لأي مشروع وطني ضخم ، إلا أنها كشفت بوضوح عن الحاجة إلى نظام تأميني مستدام يشارك فيه القطاعان العام والخاص بشكل متكامل.
لقد أكدت التجربة السابقة أهمية وجود بنية تقنية موحدة، وحوكمة واضحة، ومعايير جودة تضمن أن يكون التأمين رافدًا للرعاية الصحية وليس عبئًا عليها. وهي دروس ثمينة تسهم اليوم في بناء نموذج أقوى وأكثر نضجًا.
أما رؤيتي لإعادة تفعيل التأمين الصحي العام القادم، فتقوم على ثلاثة ركائز أساسية:
1) تكامل حقيقي بين القطاعين العام والخاص
بحيث يتوسع القطاع الخاص في العيادات والخدمات السريعة، بينما يركز القطاع الحكومي على الرعاية التخصصية والعمليات الكبرى،ضمن مسار إحالة واضح يضمن الاستمرارية والجودة.
2) منصة رقمية وطنية موحدة
تربط جميع مقدمي الخدمة، وتتيح مراقبة فورية للمطالبات، وتقلل الهدر، وتضمن دقة القرار الطبي.
3) نظام جودة وحوكمة قوي
يشمل معايير واضحة، ومؤشرات أداء، ومتابعة مستمرة لرضا المرضى، ومنع أي ممارسات قد تؤثر على كفاءة الإنفاق.
التجربة السابقة لم تكن نهاية فكرة التأمين، بل كانت مرحلة تأسيس. أما المرحلة القادمة فيج بأن تمثل النموذج المتكامل الذي يعزز كفاءة الخدمة، ويوسع خيارات المريض، ويحقق الاستدامة الصحية للدولة.
✅ هل تعتقد أن الاستثمار في الطب بات أولوية في قطر؟
نعم أعتقد ذلك ، وبإمكان مؤسسة حمد الطبية أن تتحول تدريجيًا وبشكل مدروس إلى ذراع استثماري صحي قوي على المستوى المحلي والإقليمي، دون أن تفقد هويتها كمؤسسة عامة تقدم خدمات صحية عالية الجودة.
ولكي تصبح مؤسسة حمد الطبية جهازًا استثماريًا يجب أن تمتلك:
1) ذراع استثماري مستقل؛ بمعنى إنشاء شركة مملوكة لحمد الطبية بالكامل، على غرار سدرة للطب، وعيادة كليفلاند
هذا الذراع يكون مسؤولاً عن الاستثمار ،التطوير والتسويق الصحي ،الشراكات و
الملكية الفكرية.
2) هيكل حوكمة واضح
يضمن عدم تعارض المصالح وإستقلال الخطط الاستثمارية عن الإدارة التشغيلية
3) سياسة استثمارية صحية
تشمل:
• الاستثمار في الخدمات
• الاستثمار في الابتكار و في البنية التحتية والاستثمار خارج قطر بشكل مدروس
بالنسبة للمجالات الاستثمارية التي يمكن أن تدخلها مؤسسة حمد ،فيمكن تلخيصها كالتالي:
1. الاستثمار في الرعاية الصحية المتخصصة:
إنشاء وحدات أو مراكز متطورة يمكنها تحقيق دخل مثل جراحة الروبورت ، مراكز السكتةالدماغية، مراكز علاج القلب المعقّد، مراكز إعادة التأهيل طويلة الأمد ومراكز الرعاية المنزلية المعتمدة.
هذه الخدمات في الخليج لها طلب كبير ويمكن تسعيرها بشكل ممتاز.
2. الاستثمار في التقنية الصحية؛
بما في ذلك:
• الذكاء الاصطناعي الطبي، حلول السجلات الصحية الإلكترونية وأنظمة الطوارئ الذكية والتطبيب عن بُعد
يمكن لحمد أن تطور منتجاتها التقنية وتبيع تراخيصها خليجيًا.
3. الاستثمار في التعليم والتدريب الصحي ؛مثل أكاديمية حمد الطبية، دورات اعتماد دولي للكوادر
،برامج زمالة إقليمية وبناء مركز محاكاة إقليمي متقدم
هذا المجال عالي الربحية عالميًا.
4. الاستثمار في السياحة العلاجية؛
قطر مؤهلة بشدة لهذا القطاع بسبب الاستقرار،الجودة العالية، البنية التحتية والدعم الحكومي
يمكن لحمد أن تتعاقد مع شركات دولية لجذب الحالات المعقدة إلى مستشفياتها.
5. الاستثمار في الصناعات الصحية مثل مختبرات التحاليل المرجعية ، صناعات الأدوية والمحاليل الطبية، الأدوات الجراحية وتصنيع الأطراف الصناعية ومراكز زراعة الأعضاء.
6. الاستثمار الإقليمي في المستشفيات الخاصة
بإنشاء أو الاستحواذ على عيادات ،مراكز قلب،مراكز أشعة ومراكز علاج طبيعي.
وهناك نماذج عمل جاهزة (Business Models) يمكن لحمد تبنيها مثل:
1. Public–Private Partnership (PPP)
شراكات مع القطاع الخاص لإنشاء مراكزمتخصصة.
2. Build–Operate–Transfer (BOT)
يبني القطاع الخاص منشأة صحية، تشغلهاحمد ثم تنتقل لها ملكيتها.
3. Joint Ventures
شراكة ربحية بين حمد وشركات مثل:
• Siemens Healthineers
• GE Healthcare
• Mayo Clinic
• Cleveland Clinic
4. Spin-off Companies
تأسيس شركات منبثقة من أبحاث حمد(Medical Innovation Spin-offs).
✅ كيف ترى دور الذكاء الاصطناعي والرقمنة في مستقبل الخدمات الصحية؟
الذكاء الاصطناعي والرقمنة لم يعودا أدوات مساندة في القطاع الصحي، بل أصبحا محورًا استراتيجيًا لبناء مستقبل الرعاية في قطر والعالم. فهما يقدمان ثلاثة أدوار رئيسية:
1) تحسين دقة التشخيص وتسريع اتخاذ القرار؛
حيث تساعد خوارزميات الذكاء الاصطناعي في قراءة الأشعة، والتحاليل، والسجلات الطبية بدقةعالية، مما يمكّن الطبيب من اتخاذ قرار علاجي أسرع وأكثر دقة، خاصة في الحالات الحرجة والأمراض المزمنة.
2) رفع كفاءة التشغيل وتقليل الهدر؛
النظم الرقمية الموحّدة تُسهم في تقليل الازدواجية في الفحوصات ،تنظيم المواعيد تلقائيًا ،إدارة السجلات الطبية إلكترونيًا ،تسريع دورة العلاج وتحسين إدارة الموارد، وبذلك يتحول النظام الصحي إلى منظومة أكثر مرونة واستدامة.
3) توسيع الوصول إلى الخدمات عبر الطب الافتراضي؛
وذلك أن الرقمنة جعلت الاستشارات الافتراضية،والمتابعة المنزلية، والمراقبة عن بُعد واقعًا قائمًا،مما يقلل الضغط على المستشفيات ويسهّل الوصول لذوي الأمراض المزمنة ، يعزز الرعاية الوقائية ويدعم كبار السن والمرضى في منازلهم.
إذن الذكاء الاصطناعي ليس رفاهية تقنية، بلجزء من البنية الأساسية لمستقبل القطاعالصحي.
✅ ما الرسالة التي توجّهها للأطباء الشباب والكوادر الصحية القطرية الجديدة؟
رسالتي للأطباء الشباب والكوادر الصحية القطرية هي أن مستقبل القطاع الصحي في بلادنا يعتمد على إصرارهم، ووعيهم، وصدق رسالتهم الإنسانية ، فقد أصبحت قطر اليوم وجهة طبية متقدمة، وتحتاج إلى جيل يؤمن بأن الطب ليس مهنة فقط، بل أمانة ومسؤولية وطنية.
أقول لهم تعلّموا باستمرار، واطلبوا التخصص الدقيق، وتمسّكوا بالأخلاق المهنية، وكونوا قدوة في التعامل والرحمة قبل المعرفة العلمية ، فالطبيب الناجح هو من يجمع بين العلم،والإنسانية، والانضباط.
وأدعوهم إلى أن يكونوا جزءًا من التحول الصحي الكبير الذي تشهده الدولة في مجالات الرقمنة والبحث العلمي والطب الوقائي، وأن يثقوا بأن قطر توفر لهم اليوم بيئة تمكّنهم من التميز والإبداع والمنافسة عالميًا.
وأخيرًا ، ابقوا قريبين من المريض، فالثقة هي أساس الطب، والرحمة هي جوهره.
✅ بعد هذه المسيرة المهنية الحافلة ، ما هو التطلع الذي تتمنى ان يتحقق في قطاع الصحة مستقبلاً؟
بعد هذه المسيرة في قطاع الصحة، يبقى أملي الأكبر أن نصل في قطر إلى نظام صحي متكامل ومستدام يُدار برؤية موحدة، يكون فيه المريض محورًا لكل قرار، وتعمل فيه جميع مكوّنات المنظومة ، الرعاية الأولية، مؤسسة حمد الطبية،القطاع الخاص، الصحة المجتمعية، والصحة الرقمية ، كجسد واحد.
أتطلع إلى يوم يصبح فيه:
• الطب الوقائي ثقافة عامة
وليس برنامجًا متخصصًا، بحيث نقلل من العبءالمرضي قبل أن يبدأ.
• الذكاء الاصطناعي جزءًا من كل مسار علاجي
لتسريع التشخيص وتحسين دقته، ورفع كفاءة الاستجابة.
• التكامل بين القطاعين العام والخاص حقيقة واضحة
تخفف الضغط عن المرافق الحكومية وتوسّع خيارات المريض وجودة الخدمة.
• الصحة النفسية وكبار السن أولوية وطنية
يدعمها وعي مجتمعي وتشريعات وخدمات متكاملة.
• كوادر قطرية شابة تقود المنظومة
بمهارات عالمية، وأخلاق مهنية، وشغف حقيقي لخدمة المجتمع.
وفي النهاية، ما أتمناه هو أن يظل قطاع الصحة في قطر قادرًا على النمو، والتجدد، والاستجابة للتحديات، وأن يحافظ دائمًا على رسالته الإنسانية التي كانت ولا تزال أساس هذه المهنة
جمعية السكري
✅ ما الدوافع التي جعلتكم تبادرون بتأسيس الجمعية القطرية للسكري سنة 1995م؟
عندما كنت طبيبًا باطنيًا في مستشفى حمد خلال الثمانينيات، كانت مشكلة السكري في قطر تتفاقم بشكل واضح، وكنت ألمس يوميًا أثر نقص الوعي لدى المرضى وعائلاتهم، وغياب ثقافة التعامل الصحيح مع المرض ، هذا الواقع دفعني للتفكير بشكل أعمق في جذور المشكلة، وفي الدور المطلوب من الطبيب خارج حدودالمستشفى.
ولذلك قررت الانتقال إلى طب الأسرة، لأكون أقرب للمجتمع وتفاعله الصحي اليومي ، وكنت بحمد الله ، أول قطري يتخصص في هذا المجال،وحصلت على شهادة التخصص من جامعة غلاسكو في اسكتلندا. وخلال فترة دراستي هناك أجريت بحثًا ميدانيًا في أحد المراكز الصحيةحول أنماط الإصابة بالسكري وطرق التعامل معها، وهو بحث أكّد لي أن الوعي والسلوك اليومي هما مفتاح التحكم في المرض.
عدت إلى قطر عام 1989 أحمل همًّا واضحًا: أن يكون للمجتمع دورٌ في الوقاية قبل العلاج، وأن يدرك المريض نفسه أنه جزء أساسي من الخطةالعلاجية ، ومن هنا بدأتُ رحلة نشر الوعي الصحي، وقدّمتُ مقترحًا إلى صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر حفظها الله ، لإنشاء جمعية وطنية تُعنى بمرض السكري.
وقد تفضّلت سموها بدعم الفكرة والموافقة على تأسيس الجمعية القطرية للسكري عام 1995،ودعمت إنشاءها وتمويل برامجها، مما أتاح لنا إطلاق أولى المبادرات التوعوية المنظمة في البلاد، وتأسيس برامج تعليمية للمريض والأسرة، ونشر ثقافة الوقاية والتحكّم الذاتي.
إن تأسيس الجمعية القطرية للسكري لم يكن خطوة طبية فقط، بل كان مشروعًا وطنيًا وإنسانيًا وُلد من واقع مهني يومي، ومن إحساس بالمسؤولية تجاه مجتمع يحتاج التوعية والدعم ، وما بدأناه في 1995 كان اللبنة الأولى لبناء وعي صحي مستدام في قطر
✅ كيف تقيّمون مستوى التوعية بمرض السكري في قطر مقارنةً بما كان عليه سابقاً؟
مستوى التوعية بمرض السكري في قطر اليوم أفضل بكثير مما كان عليه سابقًا ، في الماضي كان السكري مرضًا صامتًا لا يُطرح في المجتمع بشكل كافٍ، بينما نشهد اليوم برامج وطنية للكشف المبكر، وتثقيفًا مستمرًا في المدارس والمراكز الصحية، وحملات إعلامية واسعة،إضافة إلى وعي أكبر لدى المرضى بدورهم في التحكم بالمرض.
ومع ذلك، ما زلنا بحاجة إلى تعزيز السلوك الوقائي، وتحسين الوصول إلى التوعية للفئات العاملة وكبار السن والمقيمين، حتى نصل إلى مرحلة النضج الكامل للوعي الصحي في المجتمع.
✅ ما أبرز أسباب انتشار السكري في المجتمع من وجهة نظركم؟
انتشار السكري في المجتمع يعود إلى مجموعة أسباب مترابطة، أهمها:
أولاً: نمط الحياة غير الصحي؛ حيث قلة النشاط البدني، الاعتماد على الجلوس لفترات طويلة،وضعف ممارسة الرياضة، وهي عوامل أصبحت شائعة مع أنماط الحياة الحديثة.
ثانياً: العادات الغذائية الخاطئة
مثلا الإكثار من النشويات والسكريات والأطعمةالسريعة، وتراجع الوعي بالتغذية السليمة،إضافة إلى حجم الوجبات الكبير مقارنة بالحاجةالفعلية للجسم.
ثالثاً : السمنة وزيادة الوزن؛ وهي أحد أهم العوامل المباشرة للإصابة بالسكري من النوع الثاني، خاصة بين الفئات الأصغر سنًا.
رابعاً: العوامل الوراثية والبيولوجية؛ حيث أن المجتمعات الخليجية عمومًا لديها استعداد وراثي أعلى للإصابة بالسكري، مما يجعل الوقاية ضرورة وليس خيارًا.
خامساً: التغيرات السلوكية والاجتماعية؛ ارتفاع مستويات الرفاه، قلة الحركة اليومية، الاعتماد على السيارات، ونمط العمل المكتبي أدى إلى تراجع النشاط البدني بشكل كبير. سادساً: التوتر والضغوط النفسية؛
فالإجهاد المزمن يؤثر على الهرمونات وعمل الإنسولين، ويساهم في ارتفاع معدلات الإصابة.
سابعاً: التقدم في العمر وزيادة متوسط الحياة؛فمع زيادة العمر ترتفع احتمالية الإصابة بالسكري، ومع تحسن الرعاية الصحية زاد عدد كبار السن.
من هنا نستنتج أن السكري ليس نتيجة سبب واحد، بل حصيلة نمط حياة، وسلوكيات،واستعداد وراثي ، ومع ذلك، يبقى المرض من أكثر الأمراض التي يمكن الوقاية منها عبر الوعي،التغذية السليمة، والنشاط البدني.
الأدب والروايات
✅ ما قصة لقب “رحباني الخليج” الذي أطلق عليك ؟
تعود قصة لقب “رحباني الخليج” إلى أيام دراستي في كلية الطب بجامعة القاهرة عام1974. هناك، وفي أروقة نادي طلبة قطر في القاهرة ، الذي كنت أحد مؤسسيه وعضوًا فيلجنته الثقافية ، كانت البيئة غنية بالمواهب،ومليئة بالطلبة والطالبات القطريين الذين حملوامعهم شغفًا بالفن والثقافة.
في تلك الفترة جمعتني الصدفة والاهتمام بفنان ملحن موهوب ترك بصمة كبيرة في الأغنية القطرية، وهو المرحوم عبد العزيز ناصر عبيدان ،كان اللقاء في النادي بداية صداقة فنية خالدة؛فقد شجعني بشكل كبير على تجربة كتابة القصيدة الغنائية، ورأى في أسلوبي حسًا مختلفًا.
كتبت له أول نص غنائي بعنوان “الورود”،فأعجب به جدًا، ولحّنه، وغناه الفنان القطري علي عبد الستار عام 1975. ثم طلب مني عبدالعزيز نصًا آخر على لحن بطابع هندي ، وكان ذلك اللون هو السائد آنذاك ، فكتبت له كلمات“دنيا”، فلحّنها وأعطاها للفنان القطري الراحل فرج عبد الكريم.
وقد كان المرحوم عبد العزيز ناصر معجبًا بالطابع الجديد الذي قدمته في الأغنية القطرية ، أسلوب يعتمد على الشفافية والعاطفة والصورةالشعرية ، وكان يرى فيه شيئًا مختلفًا عن السائد، وتجديدًا في روح الكلمة.
وذات أمسية كنا نجلس فيها في شقته بالقاهرة،متحاورَين حول الفن والموسيقى والكتابة، التفت إليّ مبتسمًا وقال عبارته التي ظلّت محفورة في الذاكرة:
“أنت رحباني الخليج”
كانت تلك اللحظة بداية اللقب ، ليس كمقارنة، بل كتقدير منه لأسلوب جديد في الكتابة الغنائية،ولتجربة فنية بدأت من القاهرة قبل أن تمتد إلى قطر في مجال الأدب الروائي.
✅ ما الذي دفع طبيب اعتاد ان يحمل المشرط والمقص والابرة ،إلى ان يحمل القلم ويخوض غمار الأدب وكتابة الرواية؟
كبرتَ في بيئة غنية بالكتب والحكايات، والشعر، و بالمشهد الشعبي والخليجي.
تشكّلت ذائقتي من أجواء البحر والغوص والسفر والشعر النبطي والفصيح ،ومن مجالس الكبار والتكوين الفني الذي حملته معي إلى القاهرة.
هذا المخزون لم يكن “هواية” بل بوصلة داخلية مبكرة لم أنتبه لقوتها إلا لاحقًا.
كان الأدب موجودًا داخلي قبل أن أصبح طبيبًا… لكنه كان ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر.
أنا لم أكتب عن المرضى، لكنّي كتبت عن الإنسان،والإنسان يصنعه كل ما حوله: الهوية، التاريخ،التراث، الأسطورة، السياسة، الهجرة، الوجدان،المجتمع.
من يعيش هذا العمق مثلي يحتاج إلى وسيط يعيد تنظيم هذا الزخم ، ليس الملف بل الرواية، لأن الرواية هي الفن الوحيد الذي يسمح بالبناء والتخييل والفلسفة وإعادة تشكيل التاريخ وصناعة العوالم الموازية وتطويع الزمن.
وكل هذا ليس سردًا لخبرات طبية بل إعادة إنتاج للهوية والخيال والتاريخ في قالب واحد.
حتى الآن لم آخذ من الطب القصص لكنه أعطاني الانضباط و الدقة والتفكير المنهجي والقدرة على تأسيس عالم محكم ورؤية الإنسان ككيان معقد وليس كفكرة بسيطة.
فالكتابة بالنسبة لي ليست هروبًا من الطب ، بلعودة إلى أصل تكويني الثقافي الذي سبق الطب.
✅ رواية “سميدرا” الحائزة على جائزة كتارا للرواية القطرية ،والتي تنطلق من مبدأ الحرية والعدالة والمساواة ، أثارت اهتمام القراء والنقاد ،ماذا تمثل لك على الصعيدين الشخصي والفكري؟
ماذا تمثّل لي رواية “سميدرا” وكيف وُلدت فكرتها؟
على الصعيد الشخصي، تمثّل سميدرا بالنسبة لي أكثر من رواية؛ إنها لحظة يقظة داخلية ، كانت الشرارة الأولى حين رأيت فتاة في التاسعة عشرة من عمرها على منصة “تويتر”، طالبة علوم ورياضيات في باريس، من بلاد الشام ،وربما من حلب ، لم تكن مجرد فتاة عادية؛ كانت تحمل وعيًا أكبر من عمرها، وتكتب بفكر ناضج،وتدافع عن وطنها بشجاعة لافتة.
كانت تتقدّم إلى ساحات النقاش بلا خوف، ترفع صوت الحق، وتواجه حملات التشويه بلا تردّد ، بل إنها وقفت مع الشباب القطري خلال الحصار الظالم على قطر، تدافع عن العدالة والإنصاف كأنها تتكلم باسم جيلٍ كامل.
وفجأة ، اختفت ، اختفت تمامًا ، تلاشت تغريداتها، وغاب أثرها ، وبقي السؤال يطاردني:
ماذا حدث لها؟ ولماذا يصمت العالم حين تختفي امرأة شجاعة رفعت صوتها؟
ظلّت صورتها في مخيلتي: تلك الروح الشابة،المثقفة، العنيدة، التي تقف وحدها أمام العواصف ، ومن هنا جاء السؤال الأعظم: لماذا لانخلق نموذجًا للفتاة العربية والمسلمة، نموذجًا يستعيد دور المرأة الحقيقي ، لا ما يُفرض عليها من صور زائفة تُقصيها أو تفسد معناها؟
ومن هذا السؤال وُلدت سميدرا ، وُلدت من فتاة حقيقية ، من غيابها وصمتها وخطر الكلمات التي قالتها بشجاعة.
على الصعيد الفكري
سميدرا هي إعلاني الروائي بأن الحرية ليستترفًا، وأن العدالة ليست شعارًا، وأن المساواةليست مطلبًا يُرفع ، بل حقّ وجودي يُنتزع.
في سميدرا حاولت أن أواجه الصورة التييحاول العالم أن يرسمها للمرأة العربية والمسلمة، صورة مشوّهة، هشة، أو مُفرَغة من الوعيوالدور.
أردت أن أقدّم نموذجًا مضادًا: فتاة تقف، تعرف،تفهم، تدافع عن الحق، وتخوض معركة الوعيقبل أي معركة أخرى.
فلسفة الرواية كانت واضحة:
إذا تغيّرت صورة المرأة تغيّر شكل المجتمع كله ، ولذلك لم تكن سميدرا رواية شخصية ،
كانت مشروعًا فكريًا عن الحرية ومسؤوليةالوعي، وعن أن الشجاعة لا تُقاس بالعمر، بل بمايحمله الإنسان من نقاء وحق.
على المستوى الشخصي:
سميدرا هي أثر تلك الفتاة ، سؤالها، غيابها،وظلّها الذي بقي معي حتى تحوّل إلى حكاية.
على المستوى الفكري:
هي مشروع حرية وصوت عدالة ومحاولة لإعادةالاعتبار للمرأة العربية التي يريد العالم إقصاءهامن دورها الحقيقي.
ولهذا، حين فازت سميدرا بجائزة كتارا، شعرتبأن الجائزة ليست للرواية وحدها ، بل لتلكالفكرة، لتلك الفتاة، ولجيل كامل يحتاج من يكتبعنه بقلبٍ صادق.
✅ كيف كان تفاعل القراء والنقاد مع الرواية محلياً وعربياً ؟
منذ صدور «سميدرا»، لاحظت أن تفاعل القرّاء لم يكن مجرد إعجاب عابر، بل كان تفاعلاً حواريًا يتجاوز حدود المتعة السردية إلى التأمل في الفكرة والرسالة.
القراء تعاملوا مع الرواية بوصفها نصًا يلامس سؤال الحرية والعدالة والكرامة من زاوية إنسانية، لا من زاوية خطابية، وهذا ما صنع صدى خاصًا لها.
محليًا، كان التفاعل لافتًا حيث وجد فيها العديد من القراء القطريين صوتًا جديدًا يقدم الرواية الخليجية بطابع إنساني – فلسفي.
لقد أحبّ الجمهور شخصياتها، خاصة شخصية“سميدرا”، لجرأتها وصدقها، ولأنها تمثل نموذجًا عربيًا جديدًا للمرأة الواعية.
تمت الإشارة إليها في أكثر من محفل ثقافي بأنها عمل يوسع مساحة الرواية القطرية خارج الإطار المحلي ، كما أنها اعتُبرت خطوة مهمة في الحراك الأدبي المعاصر، لأنها طرحت قيَمًا كونية مرتبطة بالحرية والمساواة بطريقة غير مباشرة لكنها مؤثرة.
و لقد منحتها جائزة كتارا وزنًا محوريًا ودفعًا كبيرًا نحو حضور أوسع في المشهد الثقافي القطري والعربي.
عربيًا، كان الصدى أقوى مما توقعت، فقد إعتبرالنقاد العرب «سميدرا» إضافة مهمّة لأنها قدّمت نموذجًا مضادًا للصورة النمطية للمرأة العربية،نموذجًا ذكيًا، واعيًا، قوي الحضور، وصاحبةموقف.
ظهرت القراءة النقدية الأولى ل “سميدرا ” في صحف عربية كبرى. كما نوقشت في جلسات أدبية في الخليج والمغرب العربي ،ووصلت إلى قرّاء في المهجر لما تحمله من موضوعات تمسّ الإنسان العربي حيثما كان.
✅ وماذا عن “مملكة بلهمبار”؟
مملكة بلهمبار كانت بالنسبة للقراء في قطر والخليج مفاجأة سردية لأنها قدّمت عالمًا خياليًا–أسطوريًا مستندًا إلى روح البحر والتراث،ومبني على واقعة خليجية تاريخية كارثية، وهو لون غير مألوف كثيرًا في الرواية الخليجية ،القرّاء أحبّوا المزج بين الأسطورة والواقع،والمثقفون رأوا فيها نقلة إلى رواية خليجية جديدة بعيدة عن الواقعية التقليدية ، والأكاديميون اعتبروها مادة مهمّة لدراسة علاقةالخليج بالبحر والخيال الشعبي ، أمّا النقّاد فوصفوها بأنها رواية ميثولوجية عربية حديثة تبني عالمًا تخييليًا مستقلًا
وتستلهم روح الأسطورة الخليجية البحرية وتُحمّل البحر دورًا قدريًا وروحياً، واعتبروها بوابة للتعريف بالتراث القطري الساحلي. كما أنّ كثيرين رأوها عملاً جاهزًا للتحوّل إلى مسلسل أو فيلم بسبب قوتها البصرية والدرامية.
بالنسبة لي شخصيًا هي رحلة إلى الجذور البحرية للهوية القطرية وإعادة تخييل للتراث بعيون جديدة ، وهي الرواية التي رسّخت عندي جناح الخيال الملحمي بعد أن عبّرت “سميدرا” عن جناح الحرية والعدالة.
✅ هل ترى أن هناك جمهوراً حقيقياً للرواية في الخليج العربي اليوم؟
نعم، هناك جمهور حقيقي للرواية في الخليج،لكنه جمهور جديد في طبيعته ووعيه وذائقته ، خلال السنوات الأخيرة أصبح القارئ الخليجي أكثر حضورًا في المشهد الثقافي، وأكثر قدرة على التمييز بين النص العابر والنص الذي يحمل معنى وعمقًا.
أغلب القرّاء اليوم من فئة الشباب، وهؤلاء يبحثون عن الرواية التي تثير الأسئلة وتقدم رؤية مختلفة للعالم.
إنهم يميلون إلى الأعمال التي تجمع بين الفكر والخيال، بين الهوية والإنسان، وهذا يفسر تفاعلهم مع الأعمال الجديدة في الخليج.
القراءة لم تعد فعلًا فرديًا فقط؛ هناك أندية قراءة في الجامعات، جلسات نقاش في المكتبات،وحركة ثقافية نشطة في دول الخليج ، هذا يشير إلى أن الرواية جزء من حياة الناس، لا مجرد مادة في رفّ الكتب.
القارئ الخليجي اليوم يريد رواية تتجاوز المشكلات اليومية إلى أفق أوسع: الرواية الميثولوجية، التاريخ البديل، الرواية الفلسفية،والرواية ذات البعد الإنساني.
وهذا التحوّل منح الرواية الخليجية جمهورًا عربيًا إضافيًا ، النقّاد العرب كذلك أصبحوا ينظرون للرواية الخليجية بجدية أكبر، خاصة بعد بروز أعمال فازت بالجوائز وحققت حضورًا ملموسًا.
✅ ما الاعمال الأدبية القادمة؟
هناك ثلاث محطات إبداعية أعمل عليها في المرحلة المقبلة، وكل منها تفتح لي بابًا جديدًا في عالم السرد:
1) رواية جديدة عن ابن سينا :
أواصل الكتابة في مشروع ابن سينا الذي أصبح بالنسبة لي أكثر من رواية؛
إنه فضاء فلسفي وعلمي وإنساني أستكشف فيه صراع الهوية والعوالم الموازية والصدام بين الإنسان وظله، وتلك المنطقة الخفية بين العلم والقدر ، الرواية القادمة ستفتح أبوابًا لم تُطرق في الأدب العربي من قبل.
2) الولوج إلى عالم روايات اليافعين:
أشعر أن لدينا فجوة كبيرة في أدب اليافعين في الخليج والعالم العربي،
وأؤمن أن هذه الفئة بحاجة إلى روايات تُلهِم ولاتُملي، تمنح الخيال مساحة وتطرح قيمًا إنسانية دون خطاب مباشر ، سأدخل هذا العالم بروح جديدة، أمزج فيها بين المغامرة، والهوية،والخيال، وأقدم للجيل الجديد قصة يجد نفسه فيها ويثق أن المستقبل ينتمي إليه.
3) تجربة الكتابة المسرحية :
المسرح بالنسبة لي هو أعلى درجات المكاشفة ، إنه الفن الذي يجمع بين الكلمة والصوت والحركة والضوء، ويحوّل النص إلى نبض حيّ أمام الجمهور.
أعمل حاليًا على نص مسرحي ينطلق من واقعنا المعاصر، ويتجه إلى معالجة موضوعات إجتماعية مع إمكانية دمج الموسيقى والشعر والحكاية في إطار واحد ، هذه التجربة ليست سهلة لكنها جذّابة لأنها تعيد للنص حياته الأولى على الخشبة.
✅ ما المكانة التي تحتلها الرياضة في حياة د. عبدالرحمن الكواري؟
الرياضة بالنسبة لي ليست نشاطًا ثانويًا أو مرحلة عابرة، بل جزء عميق من تكويني الإنساني منذ سنوات الشباب الأولى ، في المرحلة الثانوية كنت لاعب جناح أيسر في نادي التحرير الواقع في منطقة الشرق ، قبل أن يندمج لاحقًا مع نادي الوحدة الرياضي ليشكّلا معًا النادي المعروف اليوم باسم النادي العربي.
تلك التجربة المبكرة لم تترك في حياتي مجرد ذكريات جميلة، بل غرست في داخلي قيمًا ظلّت ترافقني حتى الان مثل الانضباط الذي تعلّمته من التدريب وروح الفريق التي تنعكس اليوم في عملي الإداري والمهني ،وكذلك الإصرار الذي يجعل الإنسان يكمل الطريق حتى النهاية. أناأؤمن بأن الرياضة لياقة ذهنية قبل أن تكون بدنية ، وأن الصحة نمط حياة وليست قرارًا لحظيًا
لقد شكّلت الرياضة جزءًا أصيلًا من رحلتي،وساهمت لاحقًا في تشكيل رؤيتي للطب والصحة والعافية ، وما زلت إلى اليوم أرى أن الرياضة أسلوب حياة يحافظ على الجسد،ويُنقّي الذهن، ويُحيي الروح.
✅ كلمة أخيرة ؟
في نهاية هذا الحوار، أدرك أنني لم أكن أجيب عن أسئلة فقط ، بل كنت أعيد اكتشاف الرحلة التي صنعتني: رحلة تبدأ من حصير في حجرة من حصى وطين في قرية تحتضن شاطئ بحر شمال قطر إلى أزقة “فريج شرق”
وتعبر مقاعد الطب،
وتدخل دهاليز الإدارة الصحية،
ثم تمضي إلى فضاء الرواية،
حيث يصبح الإنسان نصًا، والحياة سؤالًا،
والكتابة جسرًا بين ما عشناه وما نحلم به.
تعلّمت من الحياة شيئًا واحدًا ، أن الإنسان لايُقاس بما يجمعه من المهن، بل بما يبنيه من أثر ، وكل ما كتبته من سميدرا إلى بلهمبار إلى ابنسينا القادم ، كان محاولة لترك أثر ، أثر يشبه قناعتي العميقة بأن الحرية ليست رفاهية، وأن العدالة ليست شعارًا، وأن الإنسان، مهما كانت عثراته، يستحق أن يُروى بصوته الحقيقي.
أنا ممتنّ لكل قارئ فتح قلبه لنصّي، ولكل ناقد قرأ المعنى لا الحرف،
ولكل روح تسعى إلى النور في زمن تتكاثر فيه الظِلال ويستشري فيه الضَلال.
وإن كنت قد آتيت شيئًا يُذكر،
فهو أنني حاولت أن أكتب بضميرٍ يقظ،
وأن أقول الكلمة التي تُنقذ، لا الكلمة التي تُرضي، والأبواب ما زالت مفتوحة
والرحلة لم تنتهِ ، فالكتابة بالنسبة لي ليست محطة، بل قدرٌ جميل
يمدّني كل يوم بسبب جديد لأعيش، وبمساحة جديدة لأحلم،
وبقلم آخر لأواصل الطريق ،
والسلام عليكم…
وشكرًا لكل من رافقني في هذا العبور.




