شارك حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، في الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين التي عقدت اليوم بمقر المنظمة في نيويورك، وذلك بحضور عدد من أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسعادة قادة الدول ورؤساء الحكومات والوفود وممثلي المنظمات الحكومية وغير الحكومية.
وألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، في الجلسة خطاباً، فيما يلي نصه:
بـسـم الله الــرحـمـن الـرحـيــم
سـعـادة رئـيـسـة الجـمـعـيـة الـعـامـة،
سـعـادة الأمـين الـعـام،
الحـضـور الـكـرام،
الـسـلام عـلـيـكـم ورحـمـة الله وبـركـاتـه،
لقد أنشئت منظمة الأمم المتحدة منذ ثمانية عقود بناءً على عدد من القواعد والمبادئ التي توصلت إليها الإنسانية بعد حربين عالميتين. وتقوم هذه القواعد على الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، واحترام كرامة الإنسان وسيادة الدول وشؤونها الداخلية، والتعاون الدولي لما فيه خير شعوبنا والبشرية.
إن تراجع منطق النظام الدولي هذا أمام منطق القوة يعني السماح بتسيد حكم الغاب حيث تغدو مفاهيم القانون والعدالة نافلةً خارج السياق، وحيث يحظى الـمتجاوز على الآخرين بامتيازات لـمجرد أن بوسعه فعل ذلك.
هذه هي الواقعية السياسية الجديدة التي اختزل تعريفها ليصبح مقتصرًا على مسايرة القدرة على فرض الأمر الواقع.
ثمة قصر نظر كارثي في هذا السلوك. فمرتكب التجاوزات في العلاقات الدولية يعتبر أن التسامح معه ضعف، ويعد المتسامح مع تجاوزاته عاجزًا.
إن الموضوع الذي ينبغي أن يتصدر النقاش في المؤسسات الدولية حاليًا هو كيفية استعادة نظام الأمن الجماعي قوته وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، وعودة الفاعلية للشرعية الدولية.
الحـضـور الـكـرام،
كما تعلمون تعرضت الدوحة يوم 9 سبتمبر إلى اعتداء غادر استهدف خلاله اجتماع للوفد المفاوض لحركة حماس في مسكن أحد أعضائه في حي سكني يضم مدارس وبعثات دبلوماسية. وقد سقط جراء هذا العدوان ستة شهداء من ضمنهم مواطن قطري يخدم في قوة الأمن الداخلي -لخويا-، وأصيب ثمانية عشر بجراح.
كان هذا العدوان انتهاكًا خطيرًا لسيادة دولة، وخرقًا سافرًا وغير مبرر للأعراف والمواثيق الدولية؛ لكن العالم بأسره صدم أيضًا بسبب ملابسات هذه الفعلة الشنعاء التي صنفناها إرهاب دولة.
فخلافًا لادعاء رئيس حكومة إسرائيل، لا يدخل هذا العدوان ضمن حق مزعوم في ملاحقة الإرهابيين أينما كانوا، بل هو اعتداء على دولة وساطة صانعة سلام كرست دبلوماسيتها لحل الصراعات بالطرق السلمية، وتبذل منذ عامين جهودًا مضنيةً من أجل التوصل إلى تسوية توقف حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وهو أيضًا محاولة لقتل سياسيين أعضاء وفد تفاوضه إسرائيل، وهم عاكفون على دراسة ورقة أمريكية للرد عليها. فكما تعلمون، تستضيف قطر، بصفتها دولة وساطة، خلال المفاوضات وفودًا من حركة حماس وإسرائيل.
وقد أنجزت الوساطة فعلًا بالتعاون مع الشقيقة مصر والولايات المتحدة الأمريكية تحرير 148 من الرهائن. وقد واصلنا الوساطة مع أن إسرائيل ألغت الهدنة الأخيرة من طرف واحد دون تقديم أي مبرر، يحدونا في ذلك الأمل بالتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار والإفراج عن جميع الرهائن، وانسحاب قوات الاحتلال من القطاع، ودخول المساعدات الإنسانية وتحرير أسرى فلسطينيين.
يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها. من الصعب التعامل مع هذه الذهنية التي لا تحترم أبسط المبادئ في التعامل بين البشر. فتوقع تصرفات أصحابها يكاد يكون مستحيلًا. أليس هذا هو تعريف الحكومة المارقة؟
لا يسعى طرف لاغتيال الوفد الذي يفاوضه إلا إذا كان هدفه إفشال المفاوضات. وما المفاوضات عنده إلا مواصلة للحرب بطرق أخرى، ووسيلة لتضليل الرأي العام الإسرائيلي.
إذا كان ثمن تحرير الرهائن الإسرائيليين هو وقف الحرب، فإن حكومة إسرائيل تتخلى عن تحريرهم. فهدفها الحقيقي هو تدمير غزة، بحيث يستحيل فيها السكن والعمل والتعليم والعلاج، أي تنعدم مقومات الحياة الإنسانية، وذلك تمهيدًا لتهجير سكانها. لهذا السبب يريد رئيسها مواصلة الحرب. إنه يؤمن بما يسمى أرض إسرائيل الكاملة. وهو يعتبر أن الحرب فرصة لتوسيع المستوطنات وتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف، كما يخطط لعمليات ضم في الضفة الغربية. لم يعد هناك شك في أن التطهير العرقي وتغيير واقع المناطق المحتلة، بل وفرض وقائع جديدة على الإقليم هو هدف هذه الحرب.
وقد بين هذا الاعتداء الغادر على سيادة دولة خليجية على بعد آلاف الأميال أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي يتباهى بأنه غير وجه الشرق الأوسط في العامين الأخيرين، يقصد فعلًا أن تتدخل إسرائيل حيثما شاءت ومتى شاءت. إنه يحلم أن تصبح المنطقة العربية منطقة نفوذ إسرائيلية. وقد حذرت الدول العربية والإسلامية التي تنادت وعقدت مؤتمر قمة في الدوحة من عواقب هذا الوهم الخطير.
ليست إسرائيل دولةً ديمقراطيةً في محيط معاد كما يدعي قادتها، بل هي في الحقيقة معادية لمحيطها، وضالعة في بناء نظام فصل عنصري وفي حرب إبادة. ويفتخر رئيس حكومتها أمام شعبه أنه منع قيام دولة فلسطينية، ويعده أن الدولة الفلسطينية لن تقوم مستقبلًا، وإنه يتباهى بمنع تحقيق السلام مع الفلسطينيين وبأنه سوف يمنع تحقيقه في المستقبل.
إسرائيل محاطة بدول إما وقعت اتفاق سلام، أو ملتزمة بمبادرة السلام العربية. ولكنها لا تكتفي بالتسويات والهدن، حتى تلك القائمة على موازين قوى مختلة، بل تريد أن تفرض إرادتها على محيطها العربي. وكل من يعترض على ذلك هو في دعايتها إما إرهابي أو معاد للسامية. وهذا ما أصبح الرأي العام حتى في الدول الحليفة لإسرائيل يدركه ويرفضه. وها نحن نشهد نشوء حركة تضامن عالمية تشبه الحركة العالمية ضد نظام الفصل العنصري في القرن الماضي.
ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أعرب عن تقديري للتضامن العالمي مع قطر، بما في ذلك بيان مجلس الأمن الذي أدان العدوان بإجماع أعضائه.
الحـضـور الـكـرام،
لقد اختارت دولة قطر أن تظل – كعهدها – وفية لنهجها بالوقوف في صف القيم والمبادئ التي يفترض أن المجتمع الدولي يقوم عليها، والإيمان بإمكانية التوفيق بينها وبين المصالح حين تكون السياسة عقلانية وواقعية، وعدم الخشية من رفع صوت الحق حين يخيم الصمت، والتمسك بالدبلوماسية حيث يستسهل الخصوم استخدام السلاح.
لقد انخرطنا في وساطة شاقة لوقف الحرب، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين. وواجهنا حملات تضليل ضد الجهود التي نبذلها. لكن تلك الحملات لن تثنينا عن مواصلة جهودنا بالشراكة مع جمهورية مصر العربية الشقيقة والولايات المتحدة الأمريكية.
إن قناعتنا راسخة بأنه لا يمكن تحقيق السلام في منطقتنا دون اتخاذ المجتمع الدولي ولاسيما مجلس الأمن موقفا حازما بالانتقال من انقياده لإيقاع الاحتلال في فرض الوقائع في حروبه المتتالية، إلى حل القضية الفلسطينية على أساس إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية والسماح للشعب الفلسطيني بممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967 وفقا لقرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين الذي توافق عليه المجتمع الدولي.
إننا نثمن دور الدول التي اعترفت بدولة فلسطين. ولا شك أن هذه الاعترافات تكتسب أهمية معنوية إذ تبعث برسالة مفادها أن العنف والمزيد من العنف لا ينجح في تصفية قضية عادلة مثل قضية فلسطين. ونحث باقي الدول على الاعتراف بدولة فلسطين.
وإيمانا منا بأن عدم الاستقرار لا يعرف حدودا، وأن الإنسانية مصيرها مترابط، فقد واصلت دولة قطر جهودها الدبلوماسية للإسهام في حل أزمات أخرى كالحرب في أوكرانيا والحروب في إفريقيا. وقد أثمرت المثابرة في هذه الجهود مع شركائنا في القارة الإفريقية عن خطوات نوعية نحو إحلال السلام، كان أبرزها التوقيع على إعلان المبادئ في الدوحة بين حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية وتحالف نهر الكونغو/حركة 23 مارس، دعما لمسار تقوده الولايات المتحدة إلى اتفاق سلام شامل في شرق البلاد، وستظل دولة قطر شريكا فاعلا في المجتمع الدولي لحل المنازعات بالطرق السلمية واقتناص الفرص لإحلال السلام العالمي.
الحضور الكرام،
ما زالت بعض الدول في منطقتنا تعاني من غياب الاستقرار والأمن، ولكن ما يبعث على الأمل حدوث بعض التطورات الإيجابية.
فسوريا الشقيقة تشهد منذ أواخر العام الماضي مرحلةً جديدة، نأمل أن تكون بداية مسار نحو تحقيق تطلعات الشعب السوري في الاستقرار والتنمية وسيادة القانون، وذلك بعد أن طويت صفحة قاتمة من تاريخ وطنه. وقد وقفت قطر إلى جانب الشعب السوري على نحو مثابر طوال السنوات السابقة، وكنت أذكر بقضيته من على هذا المنبر حتى حين بدا وكأنها أسقطت من جدول أعمال السياسة الدولية.
ويتعين على المجتمع الدولي استغلال الفرصة المتاحة حاليًا للوقوف إلى جانب سوريا لتتجاوز هذه المرحلة الانتقالية بنجاح ويحظى السوريون بحياة طبيعية بعد عقود من المعاناة. وقد علمتنا التجربة في بلدان عربية أخرى أن بناء مؤسسات الدولة وكذلك إرساء العلاقات بين الدولة وعموم الناس على أساس المواطنة المتساوية مع احترام التنوع الديني والإثني والثقافي، يكتسبان أهميةً قصوى في هذه المرحلة. ولن تدخر دولة قطر وسعًا في تقديم الدعم اللازم للشقيقة سوريا. وإنني على ثقة بقدرة الشعب السوري على التغلب على مصاعب المرحلة الانتقالية ونبذ الطائفية بأشكالها كافة والعنف وعناصر الشقاق الأخرى، ورفض التدخل الخارجي، ولا سيما المحاولات الإسرائيلية لتقسيم سوريا، والتصرف وكأن المناطق الواقعة في جنوب دمشق هي مناطق نفوذ إسرائيلية.
كما شهد لبنان الشقيق تطورات إيجابيةً تمثلت في انتخاب الرئيس العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية وتعيين دولة الدكتور نواف سلام، رئيسًا للحكومة، مما يشكل خطوةً هامةً نحو استقرار الأوضاع في البلاد، وتواصل دولة قطر الوقوف إلى جانب لبنان وشعبه ومؤسساته ودعم الجيش اللبناني، ونؤكد على ضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المواقع التي احتلتها خلال الحرب الأخيرة، ووقف تدخلها في شؤون لبنان الداخلية.
وبالنسبة للسودان الشقيق، فإن شعبه ما زال يعاني من أزمة إنسانية غير مسبوقة نتيجة استمرار العنف.
ونحن ندعو مجددًا جميع الأطراف إلى إعلاء المصلحة الوطنية العليا، والانخراط في حوار شامل يقود إلى سلام مستدام، ويحفظ وحدة السودان واستقلاله وسيادته، ويحقق تطلعات شعبه في الأمن والاستقرار والتنمية. ونعرب عن دعمنا للجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى تحقيق هذه الغاية.
الحـضـور الـكـرام،
لطالما كانت الدوحة عاصمة عالمية تحتضن الفعاليات الكبرى السياسية والاقتصادية والرياضية، ومركزا يجمع القادة وصناع القرار من مختلف أنحاء العالم للتشاور وصياغة حلول واقعية للتحديات العالمية المشتركة، وسوف نستضيف مؤتمر القمة العالمي الثاني للتنمية الاجتماعية، خلال الفترة من 4-6 نوفمبر 2025. ونتطلع للترحيب بكم خلال هذا المؤتمر.
ولا شك أن ثقة المجتمع الدولي بنا إنما تقوم على سجل من النجاحات التنظيمية التي حققتها دولة قطر على مر السنوات، وبناء على هذا الإرث الراسخ قدمت ملف ترشحها لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية 2036، إيمانا منا بأن الرياضة ليست مجرد منافسة، بل جسر يربط بين الشعوب، ومنصة لترسيخ قيم السلام والتفاهم، ولقد أثبت تنظيمنا لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 أننا قادرون على جعل الأحداث الرياضية الكبرى ساحة للتواصل والتقارب بين الثقافات المختلفة.
وختاما،
إن دولة قطر وهي تعي جسامة التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي، تؤكد أنها ستظل وفية لالتزاماتها في مناصرة الحق، وبناء جسور السلام، وتعزيز العدالة في العلاقات الدولية.
أشـكـركـم، والـسـلام عـلـيـكـم ورحـمـة الله وبـركـاتـه.
حضر الجلسة معالي الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، وأصحاب السعادة أعضاء الوفد الرسمي المرافق لسمو الأمير.