- يتساهل بعض الناس في إطلاق الأحكام المثبّطة في زمانٍ صعبٍ يحتاج فيه الناس إلى التثبيت والإسناد النفسيّ، وهذا التساهل إمّا يكون فساداً وغرضاً فيهم، وإمّا ظنّاً منهم اجتهدوا فيه بأنهم يبيّنون ما يرجّحون الحقّ فيه، وتجب النصيحة به.
- وكثيرٌ من هؤلاء المفتين المفتونين يكون شأنهم متأثّراً بمذهبٍ يميلون إليه، أو تنظيرٍ مَكتبيٍّ انغمسوا فيه، واستظهروا فيه النصوص المجرّدة عن مقاصدها ومناسباتها وفقهها الاجتماعيّ ، وغفلوا عن فقه المغازي وتطبيقات السيرة النبوية وسياق الأخبار وظروفها، رغم تذكير السلف بأهمية حضور ذلك، فقد كان زين العابدين بن علي بن الحسين يقول: “كنا نُعلَّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن”؛ وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص:”كان أبي يُعلِّمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه…”.
- وإنّ هناك مواضع فاصلة لا يصح فيها الإشارة إلى إعلان الهزيمة وإشهار الاستسلام، وتَعظم فيها خطيئة الدعوة إلى ذلك، وهناك لا يجوز لأحد أن يُضعِف موقف المقاتلين وسط المعركة ولو بكلمة، أو أن يخذّل حاضنتهم، أو أن يفتي بما يفتّ في عضدهم، ويزعزع ثقتهم ما دامت فيهم قوّة تقاتل وتدافع.
- وقد حدّثتنا سيرة رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه أن أصحابه الذين أصابهم القرح الشديد في معركة أُحد تحاملوا على أنفسهم، ولم يقبلوا أن يُقفَل مشهد المعركة على هزيمة المسلمين، فاستجابوا لأمر رسول الله بأن يلاحقوا جيش قريش في اليوم التالي وهم مصابون مكلومون يدفنون قتلاهم ويعالجون مصابيهم، كما ورد في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى : (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) إلى آخر الآية؛ فقالت لعروة بن الزبير بن العوّام: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، فلما أصاب نبيّ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أصاب يوم أُحُد، وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: مَن يرجع في أثرهم! فانتدب منهم سبعون رجلًا فيهم أبو بكر والزبير -رضي الله عنهما-.
- وقد كان في أبي بكر والزبير جراحة من أثر المعركة، وكانت فرصة هزيمة هؤلاء السبعين شبه محققة لضعفهم وقلة عددهم، وقوّة معنويات قريش بحيث إنهم فكّروا بالرجوع ومعاودة الهجوم على المدينة واستئصال من فيها من المؤمنين؛ والعجيب أنّ رسول الله أمر ألا يخرج في هؤلاء السبعين أحد ممن لم يشهد معهم أحداً، ووصلت المعلومات إلى قريش تفيد بخروج أهل المدينة كافة لملاحقتهم، فعجّلوا خروجهم إلى مكّة.
- وانظروا إلى فهم محمد بن إسحاق أحد أكابر رواة المغازي: (وإنّما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرهِباً للعدوّ ليُبلغهم أنّه خرج في طلبهم ليظنّوا به قوّة، وأن الذي أصابهم لم يُوهِنهم عن عدوّهم) فقوة الروح المعنوية للمقاتلين واستدامة شعورهم بالقوّة وإباء الوهن وعدم السماح بتسرّب الإحباط إلى نفوسهم مصلحة عليا راعاها رسول الله في قراره بملاحقة العدوّ المتغلّب.
- ويظهر حرص رسول الله على إظهار قوّة المسلمين وإشعار الأعداء بها، وأنهم لم يضعفوا نتيجة ما أصابهم كما فهمه ابن إسحاق في رواية الحديث الأخرى عند البيهقي، إذ خاطب رسولُ الله جُندَه من أصحابه – وهو المصاب المجروح المكلوم مثلهم، فقال: “مَن يَنتدب لهؤلاء في آثارهم، حتى يعلموا أنّ بنا قوّةً! “، فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم، وانصرفوا بنعمة من الله وفضل… ولم يلقَوا عدوّاً؛ والانتداب أن يبعثك أحدٌ أو يدعوك إلى أمر فتجيبه بعد أن يتكفّل لك بكل احتياجاتك في سبيل تحقيقه.
- فحرّضوا المؤمنين على القتال أيها الدعاة ما دامت الحرب قائمة، ودَعُوا نقد المعركة والتسميع بالمآخذ عليها، فهم عارفون بما يجري، وهم بين أهلهم وقومهم، ومصابُهم واحدٌ، ولو علِموا سبيلاً ناجعاً مستديماً للتخفيف عنهم لسلكوه ولم يتردّدوا… ولا تُوهِنوهم بمشاعر الضعف فيكم .