كيف ينصرُ اللهُ عبادَه بالغيب! – د. أسامة الأشقر

وقفتُ مليّاً أتدبّر قوله سبحانه: (وليعلم الله مَن ينصرُه ورسلَه بالغيب)، وتفكّرت في دلالة “الغيب” في هذا الموضع العجيب، فخطرت لي هذه المعاني:

وأخيراً تأملوا معي يا أهل الثغر هذه الآيات بوعي المؤمن بالله الواثق به: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، وقوله تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).

من معاني هذا الغيب أن الله تعالى يضع عباده مجدداً أمام اختبار إيمانهم إذا دخلوا محنة، وقاتلوا أشد القتال، ثم لم يظهر لهم النصرُ المبين الواضح؛ فنحن نعلم أنّ أيّ بلاء شديد يعقبه تفكّكٌ في البنى الاجتماعية السائدة وتغيير حادّ فيها، وهو امتحان اجتماعيّ ينظر فيه الله إلى كيفية استيعاب هذا الجيل الذي خضع للتجربة الصعبة كيف سيتعاملون مع أنفسهم ومجتمعهم وعدوّهم، وكيف سيصبرون على هذا التغيير، وهل سيثبتون، وهل سيستطيعون شكر الله عقب هذا البلاء الذي استنزفهم، وسيستطيعون تأسيس برامج تبني على تجربتهم، (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) ، وهذه من دقائق التشريع الكونيّ الإلهي في نظام المجتمعات البشرية.

الغيب هنا يعني الالتزام بنصرة الحق، والدوام على ذلك بصدق لأنّه الحق، وليس لأنه مكسبٌ أو حاجةٌ أو ضمانٌ، وهذا الإيمان بهذا النوع من الغيب يجدّد الروح، ويفعمها بالحيوية، ويملؤها بالإرادة.

ولا يظنّنّ أحدُنا أن النصر هو الغلبة والقهر والظفر، فالنصرُ معنى غيبيّ في حقيقته، وهو إسنادٌ مفتوحٌ من الله تعالى، وفرصٌ للتحرك للأمام، وتهيئةٌ لبيئة عمل أفضل، وزيادة لقدراتك، وتعظيمٌ لتأثيرك، فتنفتح لك فضاءات أكبر كلما تقدّمت بحزم وإصرار وثبات، بينما تتراجع حظوظ تقدمك إذا ضعفتَ، وانسحبتَ، واختفيت بين شقوق الظلال طلباً للسلامة الزائفة المؤقتة.

لقد ابتلانا الله بالنقص والفقد من الأنفس والأموال، والحرمان من الطعام والشراب والأمن والاستقرار، وسلّط علينا نمطاً عالياً من تتابع الهدم والقتل والدمار والصراع والكوارث والآفات والظلم والتفكك والجريمة واليأس…، أيْ أنّ هناك خسائر كبيرة في طريق البلاء، وهذه الأقدار لا تأتي مراعة لعواطف الناس وانفعالاتهم، ولا ردود أفعال (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ)، لذلك أعطى ربّنا إشارته الرحيمة: (وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) فهؤلاء مهديّون ولن يضلّ الله ما عملوه، وسيصلون إلى أهدافهم المرادة، وسيُجزَون أيضاً جزاء رفيعاً في الجنّة التي عُرِّفت لهم.

وقد رأينا كيف نبّهنا الله إلى بلاء الناس ببعضهم في سياق انتصار الله لعباده: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا) – (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) – (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ).

وهذا يعني أنّ الله تعالى بصير بعباده وأحوالهم، ويعلم ما يصيبهم من بلاء عظيم، وأنّه اختار لهم الثبات عندما يمدّهم الله بمعيته (أَنّي معكم فَثَبّتُوا الذين آمَنُوا) و(إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)؛ فلا ينبغي أن تنتهي المعارك الاستراتيجية بالسكون والهدوء وطلب الراحة، لأنّ ما جرى تجاربُ بلاءٍ، فيجب أن تكون حافزاً للاستمرار واتصال الأعمال ومداواة الجراح واستقبال النوازل واستئناف النهوض، استناداً إلى موقف التدافع والثبات وعدم التراجع أو الانسحاب تحت ضغط البلاء، ولاسيما على الفئة التي لم تقاتل أوّل مرّة، فقد انتقل السلاح إلى كتفها.

هذه الأقدار التي كتبها الله لا تَبلَى إلا بعد يُبلَى أصحابها، وكما أمرنا أن نتقيه حق تقاته فقد أمرنا أن نـ.ـحـ.ـاهـ.ـد فيه حق حـ.ــهـ.ـاده، ومن يطلب القمة والرفعة فإن الرفعة مرتبطة بالبلاء {وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم}.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى