في السنوات الأخيرة، انتشرت ظاهرة خطيرة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يتزعمها بعض الأشخاص – أغلبهم من النساء وبعض الرجال – يدّعون القدرة على التنبؤ بالمستقبل، ويتحدثون عن انقلابات مرتقبة، وحروب قادمة، ومصائر رؤساء وأمراء، بل يزعمون علمًا بالغيب، يوزعونه حسب الأبراج والتأويلات والنجوم.
لكن السؤال المهم: هل هذا من العلم في شيء؟
إن من المؤسف أن يختلط هذا التنجيم والدجل بما يسمى زورًا “علم الفلك”، والفلك بريء من ذلك براءة العلم من الجهل. فالعلم الحقيقي لا يقوم على الظن أو الرجم بالغيب، وإنما على المنهج، والدليل، والتجربة، واليقين القائم على أسس ربانية وعقلانية.
لقد قطع الله سبحانه وتعالى الشك باليقين فقال:
“قُلْ لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ” [النمل: 65]“عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ” [الجن: 26-27]
أي أن علم الغيب هو اختصاص إلهي، لا يُمنح إلا لبعض الأنبياء، وفي مواضيع مخصوصة، بإرادة الله وحده.
البراءة العلمية من التنجيم
علم الفلك، وهو أحد أرقى علوم الطبيعة والكون، بريء كل البراءة من هذه التنبؤات. الفلك علم دقيق، يقوم على الحسابات الرياضية، والرصد، والمحاكاة الفيزيائية لحركة الأجرام السماوية. أما ما يمارسه هؤلاء العرّافون فليس من الفلك في شيء. إنه تنجيم وتخرص وافتراء، يستغل ضعف الوعي لدى الناس، وشغفهم بالمجهول، وحاجتهم إلى الأمل أو الخوف.
وقد حدّد القرآن الكريم وظائف النجوم بثلاث وظائف فقط:
“وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ”
“وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا”
“إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ”
وقد كنتُ قد ألّفتُ كتابًا عام 2003 بعنوان “علم الفلك وتأثيراته” في بغداد، وضّحتُ فيه بالأدلة أن علم النجوم يقوم على ثلاث خصائص رئيسية:
1. الزينة: وهي وظيفة جمالية للسماء، لا يدرك أبعادها إلا الله.
2. الرجوم: حيث تكون النجوم رجومًا للشياطين، وهذه خاصية غيبية لا يملك التحكم بها إلا رب العزة والجلال.
3. الهداية في المسير: وهي خاصية عملية، استخدمها الإنسان في السفر والملاحة، وقد طورها العلماء فيما بعد، ووضعوا لها القواعد وأسّسوا لها تكنولوجيا متقدمة، فأصبحت من علوم الاستشعار والملاحة الفضائية.
وهاتان الخاصيتان الأوليان هما من خصائص الإله الخالصة التي لا يمكن لأي مخلوق التدخل فيها، أما الثالثة فهي ما طوّره الإنسان بعلمه وتجربته ضمن حدود الهداية الربانية.
علم الدلائل والإلهام والوعي الحقيقي
لا ننكر وجود علم يُعرف بـ”علم الدلائل”، وهو قائم على استقراء السنن الكونية والآيات الربانية، ولكن له أصوله وقواعده، وليس عبثًا مبنيًا على الشعوذة. كما أن العلم اللدني والإلهام أمران مذكوران في القرآن، مثلما أُلهمت أم موسى:
“وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ”
لكن الإلهام الرباني لا يتناقض أبدًا مع العقل والعلم والشرع.
إن من يظهرون في الإعلام أمثال “ليلى عبد اللطيف” و”هبة مبارك” و”انتصار الدليمي”، لا يحملون هذا العلم الرباني، ولا يستمدون وحيهم إلا من خيالهم أو ما وراءه. وللأسف، بعضهم مدفوع بأجندات طائفية أو سياسية، يحاول التأثير على اللاوعي الجمعي، وتهيئة العقل الباطن لفوضى قادمة، وهذا خطر كبير.
“إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ”
فهم من أولياء الشيطان، وليسوا من أهل العلم أو الحكمة أو الرؤية الصافية.
فلنعد إلى الوعي والإدراك
نحن في حاجة ماسة إلى إعادة بناء الوعي الجمعي، ونشر العلم الحقيقي، وتمييز الخرافة من الحكمة، والتفريق بين الغيب الذي هو لله وحده، وبين الاجتهاد المبني على السنن والأسباب.
“قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”
إنّ طريق النجاة اليوم يبدأ من العقل والعلم والإيمان، لا من الأبراج أو الطلاسم أو المنامات. ولن يرتقي مجتمع إلا إذا تحرر من هذا الخداع الجماهيري، وعاد إلى القرآن والعقل والعلم.
هوامش معرفية:
المرجع:
• علم الفلك وتأثيراته
تأليف: الأستاذ الدكتور قيس عبدالعزيز الدوري
بغداد: مكتبة المثنى للنشر والتوزيع، 2003م