عن الوعي الجديد وسوريا وأمريكا ! – د. أسامة الأشقر

ومن هنا وجَب التنبيه إلى حيثيات السياسة وضروراتها، وأنّ ما يحكم علاقات الجماعات الكبرى والدول أكبر مما يحكم الأفراد والكيانات الصغيرة التي ليس لها حسابات معقدة، وأنّ على الناس وذوي الرأي فيهم خاصة أن يتقوا الله في عامّة الناس، وألّا يكونوا سبباً في زرع الأحقاد والإحن بين شعوبنا المقهورة المظلومة، وأن يكونوا بلسماً لجراحهم، ودواء لأمراضهم، ودفعاً للعوارض الضارّة بهم، وأن الكلمة مسؤولية، وأن كلمة الحق ليست كلمة عابرة لا سقوف فيها، بل كلمة موزونة تحمي وتحصّن وترمّم، وأن الواجب يكون دائماً في نصرة المظلوم وإسناده والدفاع عنه، أو عدم الإعانة عليه إن عجز عن نصرته المباشرة.

قبيل سقوط النظام السوري كان يرهقنا ويوجعنا هذا التلاسن بين ناشطين سوريين وفلسطينيين على خلفيّة استعانة أهل الثغر بدول المحور وقواه، وتطرّف بعضهم في هذه الملاسنات الحادّة، وترسّمت أسوار عالية بين الفريقين المستضعفين في خريطة المنطقة.

كان كل فريق يستند إلى حجة قوية، فالفريق السوري يرى أن دول المحور عدوّ لدود للشعب السوريّ الباحث عن الحرّية، وقد تسببت هذه الدول في مأساة كبيرة له لا يمحوها الدهر بسهولة، وهذا حقّ؛ وأمّا الجانب الفلسطيني فكان يرى أنّه لا يجد داعماً أو نصيراً في الحرب إلا هؤلاء، وأنّهم لا يملكون ترف اختيار حلفائهم أو محاسبتهم، وأنّ من يرفع يده وهو في الخندق يطلب الذخيرة والسلاح فإنه يحتاج إلى بندقية ورصاص، وليس إلى كلمة تضامن لا عمل وراءها.

وكنت أحمد الله كثيراً أن كبار الفريقين من قيادات الطرفين المتنفّذين لم يتورطوا في التصريحات الضارّة إلا قليلاً لأثرها البالغ في تسميم العلاقات الشعبية لأمّة واحدة ذات جغرافية متصلة.

ما يجري اليوم من تطورات في سوريا مما يندرج في مسيرة التنمية والبناء والاستقرار وتحسين الأوضاع القاسية في سوريا أمر ينبغي أن نفرح له، وأن نعينهم عليه، كما يجب علينا أيضاً أن نستمر في تحذيرهم بعقل مفتوح ومعطيات متجددة أن عدوّنا واحد، وأن استقرار سوريا خصم استراتيجي على العدو المشترك، وأن سوريا يجب أن يكون لها دائماً خطط جاهزة تستعد بها للحظة المصيرية القادمة لتحمي نفسها من غوائل الكيان الشرير الذي يقبض على خاصرة سوريا الجنوبية باستعلاء شديد.

كما أنّ ثمّة أمراً آخر هو في الغاية من الأهمية، وهو يتعلّق بتطور الوعي السياسي في الإدارة السورية التي باتت تدرك الآن أنه ليس من المصلحة معاداة روسيا ولا العراق ولا لبنان، ولا حتى الإدارة الأمريكية وحلفائها التي كانت تصطاد رجال الثورة من قبل، بل يجب أن تنفتح في علاقاتها وتراعي سياساتها حتى لو كانت تضر في المدى البعيد بسوريا، وتخيّلوا أن روسيا التي كانت ترمي آلاف البراميل على المدنيين، وتقصف بلا رحمة ما تزال قواعدها قائمة، وهناك حوارات لا تنتهي لترتيب العلاقة بأقل الخسائر للطرفين، وهذه رؤية واقعيّة.

وحتى إيران فإنها لن تلبث أن ترتّب علاقاتها مع القيادة السورية على المدى المتوسط، فهذا أمر مألوف في عالم السياسة، وهو يتأسس على مصالح الدول العليا، ولو تحسنت علاقة إيران ببعض الخليج والولايات المتحدة فإن العلاقات ستعود إلى مجاريها الضيقة، وإن كان الفتور سيصبغ هذه العلاقات حتى تترمم تدريجياً.

ولعل ما نراه من جنوح عدد كبير من النشطاء وكتّاب الأسافير لتبرير هذه العلاقات وتأصيلها هو نموذج لِما كان ينبغي أن يعوه من قبلُ بدل غبار الكراهية الذي نثروه، ربّما لمواجهة استفزاز بعض الطرف الآخر أو لأمور أخرى، وهي دعوة للطرف الآخر في جبهة النضال المشتعلة الدامية أن يكونوا دعاة بالجدال الأحسن والحكمة البالغة، والصبر على شراسة ضغوط النفس الملتاعة المكلومة التي كان إخوانهم الآخرون يرونها، حتى طفَحت الأواني بادّعاء تفاضل الدماء، التي هي كلّها دماء حرام لا يجوز سفكها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى