لقاء ترامب وبوتين… لحظة خارج البروتوكول وصدى التاريخ- أ.د قيس عبد العزيز الدوري

بوصفي مؤرخًا تتبعتُ عبر حياتي الطويلة مسارات السياسة وتقلباتها، فإنني أُسجّل هنا مشهدًا نادرًا قلّما يتكرر: اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لم يكن لقاءً رسميًا محاطًا بالمستشارين والمترجمين، بل كان لقاءً غير مسبوق في سيارة واحدة، بعيدًا عن البروتوكول وضجيج الدبلوماسية.
ترامب، بطريقته الاستعراضية المألوفة، وقف على السجادة الحمراء ليحيي الطائرات التي تحلّق في السماء، كأنه يخاطب العالم بلغة بصرية لا تحتاج إلى كلمات. وبوتين، بابتسامته الهادئة ونظرته الصامتة، شاركه اللحظة دون حاجة إلى ترجمة أو وساطة. لقد كان مشهدًا فريدًا تختصره صورة واحدة، لكنها صورة تحمل في طياتها رمزية أوسع من أي بيان سياسي مكتوب.
مشاهد مشابهة عبر التاريخ
التاريخ يذكّرنا أن هذه اللحظة لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبقها لقاءات كسرت القيود الرسمية وخلّدت نفسها في ذاكرة السياسة:
– تشرشل وروزفلت على ظهر البحر (1941): حيث غنّى الزعيمان مع الجنود ترانيم دينية بدلًا من الاكتفاء بخطط الحرب، لتصبح الصورة أقوى من السلاح نفسه.
– نيكسون وماو في بكين (1972): مصافحة قصيرة حطّمت جدار العداء، وأعادت صياغة العلاقات الدولية لعقود.
– ريغان وغورباتشوف في ريكيافيك (1986): لقاء متواضع بلا نتائج فورية، لكنه فتح الباب أمام نهاية الحرب الباردة.
– كينيدي وخروتشوف في فيينا (1961): حيث كانت لغة العيون والنظرات أبلغ من أي كلمة مكتوبة.
واليوم، يضاف لقاء ترامب وبوتين إلى هذه السلسلة، لكنه يختلف عنها بكونه جرى في عصر الإعلام الفوري، حيث تنتقل الصورة إلى ملايين البشر في لحظة، لتصبح رمزًا يُتداول ويتناقله الناس شرقًا وغربًا.
لقاء السيارة
ما يميز هذا اللقاء أنه لم يُصنع على الطاولات الطويلة ولا بين الأعلام والبيانات، بل في مساحة ضيقة داخل سيارة. صورة زعيمين عدوين سابقين، في مقعد واحد، بلا مترجمين، وبلا خطاب رسمي. صورة كفيلة بأن تُخلّد في أرشيف التاريخ، وأن تُستعاد مرارًا كدليل على أن السياسة ليست دائمًا نصوصًا مكتوبة، بل قد تكون لحظة عابرة تفتح أبواب التأويل لسنوات طويلة.
وأخيراً 
وأنا أدوّن هذا المشهد بصفتي مؤرخًا، أجد أن التاريخ لا يُسجَّل فقط في صفحات المعاهدات، ولا يُختصر في كلمات الخطب الرسمية، بل يُصنع أحيانًا في لحظة خاطفة، في صورة واحدة، في نظرة بين زعيمين، في ابتسامة عابرة أو تحية لطائرات محلّقة في السماء.
لقاء ترامب وبوتين ليس مجرد اجتماع عابر، بل هو مرآة تعكس أن السياسة في جوهرها إنسانية قبل أن تكون بروتوكولية. وقد يختلف الناس في تفسيره: فريق يراه استعراضًا، وآخر يراه رمزًا للسلام، وثالث يعدّه رسالة قوة، لكن الجميع يتفق على أنه حدث سيظل حاضرًا في ذاكرة الأمم.
إنه مشهد يذكّرنا بأن التاريخ لا ينتظر طاولات التفاوض، بل يتشكل حين يلتقي البشر خارج النصوص، حين يتجاوزون الرسميات، حين يكتبون بلغة الجسد ما تعجز عنه بيانات المؤتمرات.
وهكذا، سيبقى لقاء السيارة بين ترامب وبوتين درسًا بليغًا للأجيال: أن لحظة صغيرة قد تغيّر مسارًا، وأن صورة واحدة قد تعيش أطول من ألف اتفاق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى