يمثّل التعليم العالي في العالم العربي ركيزة أساسية لبناء الإنسان، وصناعة التنمية، وتشكيل الهوية الثقافية للأمة. غير أنّ الواقع الحالي يكشف عن تحديات عميقة تعيق دوره، وتضعه في دائرة النقد والمراجعة. فبدل أن يكون الجامعات مصدر نهضة، تحوّلت في كثير من البلدان إلى مؤسسات متعثّرة، محاصرة بالبيروقراطية، ومثقلة بالفساد الإداري والمالي، وضعف الجودة الأكاديمية.
التحديات الراهنة
أول هذه التحديات يتمثل في تسييس الجامعات، حيث باتت بعض المؤسسات أسيرة للطائفية أو الأيديولوجيات الضيقة، بدل أن تكون منارات علمية محايدة. يضاف إلى ذلك تضخّم أعداد الطلبة مقابل ضعف الإمكانات، مما ينعكس سلبًا على جودة التعليم، ويؤدي إلى تخريج آلاف من الشباب غير المؤهلين لسوق العمل.
أما البحث العلمي، فهو الحلقة الأضعف؛ إذ لا يتجاوز إنفاق معظم الدول العربية عليه 1% من الناتج المحلي، في حين أن الدول المتقدمة تنفق أضعاف ذلك. ويؤدي هذا إلى هجرة العقول العربية المتميزة إلى الخارج، حيث يجدون بيئة أرحب للتفوق والابتكار.
أبعاد الإصلاح
لا يمكن للتعليم العالي أن ينهض إلا عبر إصلاح شامل يقوم على ستة أبعاد مترابطة:
الإصلاح الأكاديمي: تطوير المناهج والبرامج لتواكب التغيرات العالمية، والانتقال من الحشو النظري إلى بناء المهارات والقدرات العملية.
الإصلاح الإداري: تبسيط الإجراءات الجامعية، ومنح القيادات الأكاديمية استقلالية حقيقية بعيدًا عن التدخلات السياسية.
الإصلاح المالي: تنويع مصادر التمويل عبر الشراكات مع القطاع الخاص، وتشجيع الوقف التعليمي، وتوجيه الموارد بفعالية.
جودة البرامج: اعتماد معايير دقيقة للتقييم والاعتماد الأكاديمي، وربط الترقيات والتعيينات بالكفاءة لا بالمحسوبية.
جودة المؤسسات: تحويل الجامعات إلى بيئات بحثية حقيقية عبر توفير المختبرات والمراكز المتخصصة.
الموارد البشرية: الاستثمار في الأساتذة والباحثين، وتقديم حوافز تضمن استقرارهم وإبداعهم.
نحو رؤية مستقبلية
لقد أثبتت تجارب بعض الدول العربية الناجحة أن الإصلاح ممكن متى ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة. فجامعة واحدة قوية وفاعلة، قادرة أن تغيّر صورة التعليم بأكملها. كما أن دمج ريادة الأعمال في المناهج، وربط التعليم بسوق العمل، يشكّل حلاً جذريًا لمعضلة البطالة.
وأخيراً التعليم العالي في العالم العربي ليس مشكلة بلا حل، بل هو فرصة عظيمة إذا استُثمرت بشكل صحيح. نحن بحاجة إلى أن ننظر إلى الجامعة باعتبارها منارة للمستقبل، لا مجرد مؤسسة تمنح شهادات. وإذا أردنا النهضة الحقيقية، فإن البداية الحقيقية تكمن في إصلاح جامعاتنا، لأنها مصنع العقول، ومحرّك التغيير، وركيزة البناء الحضاري.