كيف أفهم حديث “لا تتمنوا لقاء العدو”؟ – د. أسامة الأشقر

  • د. أسامة الأشقر 

سألني بعض الأفاضل النجباء من أهل الثغر أن أكتب كلمات مختصرة في فقه عدم تمني لقاء العدوّ، لاسيّما أن ثمّة قوماً يستندون إليه في تعطيل الفريضة الواجبة، وفي تثبيط الناس والتشويش عليهم، وبث الأراجيف فيهم، وقد أجبتُه إلى ذلك بكلمات:

1. يَفُوت هؤلاء الناس أن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه قال ذلك لجنده وهو يغزو ويقاتل، فقد كان متلبّساً بحال قتالٍ، وليس حال سلمٍ، كما جاء في نص الحديث المروي عن عبد الله بن أبي أوفى في الصحيح.

2. وعندما يروي هؤلاء الناس قوله صلوات ربي وسلامه عليه: “لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية” فإنهم ينسون أن لمقدمة هذا الحديث تتمّة لا يكتمل المشهد المعنويّ إلا بها، بل هي جوهر هذا الحديث الصحيح ومادتُه الدسمة ونتيجتُه الفخمة: ” فإذا لقيتُموهم فاصبِروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف”.

3. وعدم تمني لقاء العدو لا يعني أن تتجنّب الاشتباك معه وقتالَه كما يريد بعضهم أن يُفهمنا إياه، إنما ذلك النهي للتحذير والتوعية في جانبِ أن المرء لا يَعْلم ما تؤول إليه الأمور والأحوال ومواقف الناس في ظل هذه المواجهات الصعبة، كما أنّ تمني لقاء العدو قد يوحي بالغرور والإعجاب والثقة المفرطة بالنفس مما ينافي التوكل على الله، ويباين الاحتياط والأخذ بالحزم، ويؤدي إلى الاستخفاف بالعدو، وعندما ينهاك رسول الله عن هذا التمني فإنه يحذرك من هذه المشاعر الخطيرة. 

4. وقد ثبت أن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه كان يطلب الموت، ويودّ لو أعيدت إليه حياته ليغزو في سبيل الله ثم يرتقي ثم يغزو ثم يرتقي… لعظم ما يراه من فضل الله في ذلك؛ وكان يحث على طلب الموت في سبيل الله وسؤال ذلك بصِدق، ولولا أن يَشُقّ رسول الله على أمّته لَمَا قعد خِلاف سرية تغزو في سبيل الله.

5. وهناك أمر مهمٌّ يجب أن يدركه المثبطون المحتالون لتعطيل فريضة القتال والالتفاف على وجوبها وتعيُّنها، وهو أنّ المؤمن المفضّل يطلب مظانّ الموت ومواطِنَه التي يُرجَى أن يكون الارتقاء إلى الله فيها، وعندما سئل رسول الله عن أفضل الناس وخير معاش الناس لهم أخبرهم أنه (رجلٌ مُمسكٌ عِنان فرسِه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هَيْعَةً أو فَزْعة طار عليه، يبتغي القتلَ والموتَ مظانّه)، وطلب مظانّ الموت تعني أنه لا يبالي، ولا يحترز على نفسه من طُروء القتل عليه، ويكفيه أن يعلم أن المحلّ الذي يقصده يترجّح لديه الظنّ بأنّ الموت في سبيل الل قادمٌ إليه هناك، ومن المعلوم أنّ مظانّ الموت تكون في مواضع القتال والمحاربة.

6. وسؤال العافية لا يعني بالضرورة أن يعافيه الله من اللقاء كما يظنّ بعضهم، بل هو العافية من نتائج لقاء العدو وأضراره وخسائره، فالعافية إنما يُفهَم معناها في سياق الحاجة إليها وقلّة فُرَصها في الظهور.

7. وجوهر الفهم في هذا الحديث أن الله إذا كتب لقاء العدو فإن الواجب هو الصبر والثبات، وعدم الفرار وعدم التولي يوم الزحف، ولقاء العدو بثبات وصبر خير من الانصراف عنه وتأخير حسم عداوته.

8. ويخبرنا رسول الله في حديثه أن الجنّة تحت ظلال السيوف، وهذه الجنّة أقرب إلى المقاتل المشتبِك ممن يتجنّب اللقاء ويَصْرفه عنه لأن الظل لا يفارق صاحبه، وهذه السيوف لا تكوّن الظلال الظاهرة إلا إذا اجتمعت، وهذه كناية عن انتظام صفوف المقاتلين واجتماع كلمته ووحدة حملتهم، أو أن المقاتلين يكونون في ظلال سيوف أعدائهم التي يرفعونها ويضربون بها في كناية عن الاشتباك والمسايفة. 

9. ويتطلب حدوث هذا الظل المُفْضِي إلى الجنّة أن تكون السيوف مسلولة مضروباً بها لا أن تكون مُغمدةً إذ لا يكون لها ظلٌّ عندئذ؛ فمن أراد الجنّة فليسّل سيفه ولا يغمده؛ وأحسب أن ظلال الطائرات والمسيرات وألسنة الذخائر والقذائف النارية وأدخنتها داخلة في تعريف ظلال السيوف هذه. 

10. وفي آخر الحديث ” اللهم منزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب: اهزِمهم، وانصرنا عليهم”، وهي كما ترى جمل قصيرة مركّزة في الدعاء: فالدعاء بصفة إنزال الكتاب يشير إلى انقضاء أجل هذا القدر وكتابِه، وأنّه سبحانه كما أنزل كتابَه فإنه يُنزِل نصره وحفظه لأهل كتابه؛ والدعاء بصفة مجري السحاب يشير إلى رجاء سرعة انقضاء هذا الأجل المكتوب كما تجري السحاب؛ والدعاء بصفة هازم الأحزاب يشير إلى تفرّده سبحانه بالقدرة على هزيمة هذه الأحلاف المعادية.

11. وبهذا نعلم أن لقاء العدوّ مدخل عظيم من مداخل الثواب والجزاء الكبير، وهو في حقيقته من أعظم ما يتمناه المرء إذا صلحت النية، وفُهِم المقصد، واستبانت المصلحة.

12. والمرءُ وإن كان قبيل المعركة لا يتمنى لقاء العدو لجهله بما يكون فيها وبعدها لكنه إذا كان في غمرة قتالٍ واجبٍ لا مناص منه كما هو حالنا اليوم فإنه يتمنى تجدُّد ذلك اللقاءِ ليستديمَ في هجومه ودفاعِه وغارتِه ومناورته، حتى يتمنّى عدوُّنا لو لم يُلاقِنا، ولم تَحْمله نفسُه الظالمة على الغرق في وحلنا.

 والله وحده المستعان، وهو الوليّ الناصرُ الوكيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى