في آخر قمة شاركت فيها كأمين عام كانت في أبوظبي 1992، كان الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية في المطار لاستقبال الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، أمير قطر، وكنت واقفاً بجانبه، نزل الشيخ حمد وهو يحيي بحرارة الشيخ زايد، وملتفتاً نحوي قائلاً: «تريدون قمة من دون قطر»، واضعاً اللوم على الأمانة العامة، وبصوت لا يخلو من عدم الرضا. أوضحت فيما بعد للشيخ خليفة تلاحق التطورات التي أوجدت اليقين بأن القمة ستعقد بحضور جميع القادة، ويكون سموكم بينهم. كان المرحوم الشيخ خليفة نادراً ما يعترض على قرارات المجلس، لكنه يقف معترضاً في حالتين، ضد أي قرار يرى فيه تجاوزاً على سيادة الدولة، ويرفض أي قرار يتدخل في حرية الدولة في اختيار مساراتها، داخلياً وفي دبلوماسيتها، ولم يكن ذلك الموقف محصوراً في الشيخ خليفة، وإنما يشكل قاعدة ثابتة في مواقف قطر، في إطار مجلس التعاون، فلا تهاون بالأساسيات التي تشكل مقام الدولة.
كان هذا المجرى «احترام السيادة وحرية الحركة الدبلوماسية» قاعدة أساسية لمسيرة التعاون بين الدول الأعضاء، لكن ضيق الشيخ خليفة بن حمد جاء من شعوره بأن الأمانة العامة لم تلتزم هذا المبدأ، وأنها أخطأت في حق مقام دولة قطر. كانت الدول الأعضاء تختلف أحياناً في تفسيرات القرار، بعضها يستوعب المعاني من دون أن يرى إضراراً لأحد، وكان البعض الآخر يدقق جيداً في المعاني، ويمكن لي أن أضع بعض المسؤولين في دولة قطر في هذا التصنيف، لاسيما في انطلاق الدبلوماسية القطرية في توفير صداقات ومواقع تزيد من فعاليتها وتعزز مصالحها، وأكثر من ذلك تخلق لها وجوداً في مختلف العواصم، وتبرز فيها مظاهر الحميمية، وذلك ترجمة لدبلوماسية تصغير الخلافات والتحفظات تمهيداً لتصفيرها. ومن هذا المنطلق اتسعت التحركات الدبلوماسية القطرية، وأسست علاقات ثنائية فيها حرارة وفيها اطمئنان مع إيران وتركيا ومع دول كثيرة، وانطلقت في مبادرات مختلفة للتوسط، إما بمبادرة منها أو ضمن جهد مشترك مع أصدقاء يجمعهم معها تلاقي المنظور والمصالح. وكانت هذه المساعي تتميز بالجرأة والتواصل، فلا تتوقف من إنهاك وضجر، أو من أثقال التكلفة، أو من بعد المسافات، أو تصدها خلافات في الاجتهادات، ومن هذه القناعة في صفاء الأجواء في كل المواقع، تحاورت مع موسكو وتلاقت مع واشنطن وتواجدت في أزمة ليبيا وبرزت في غزة، وعززت شبكتها في بناء الردع حفاظاً على استقلال قطر وسيادتها. ولم يغب عن تقديرات القيادة القطرية أن دبلوماسية المبادرات لها ثمن كبير في الجهد والعطاء ومتطلبات تأمين النجاح، فتقبلت لائحة التكاليف جهداً ومالاً ومبادرة بكل قناعة، وأبحرت كثيراً في مياه الوساطات، من دون تردد أو توقف في منتصف الطريق.
تتميز هذه الجهود المرهقة بكثير من المبادرات، التي استوطنت الدبلوماسية القطرية، أو صارت عنواناً أصيلاً لها، فلا تتوقف عن حسابات الربح والخسائر كما أشرت.. وإنما تقتحم بثقة المتأكد من قدرته، والقابل بأعباء المهمة التي يسعى لإنجاحها، مستعداً للسير إلى أقصى المتطلبات من دون خوف من ضخامة المشروع وتكاليفه. وبهذه الروح دخلت قطر في سباق المنافسة لاستضافة كأس العالم لكرة القدم ضد دول عريقة في فنون الكرة وجاهزة في البنية التحتية، التي تتطلبها من ملاعب وفنادق ومواصلات واستقبال الآلاف، وربما الملايين من البشر. وتنجح قطر في الحصول على المركز الأول في تلك المنافسة المتعبة، ومع هذا الفوز دخل العالم في تساؤلات عن القدرة القطرية لتوفير شروط النجاح، ليس في بناء الملاعب والفنادق فقط، وإنما في إمكانيات الدولة وعن موقعها الجغرافي، في تعبير واضح عن جهل كثيرين في هذا العالم بحجم الهمة القطرية وعنادها واستيعابها لشروط النجاح.
كنت أتابع خلال عملي في مجلس التعاون، المدى الذي تستوعبه قطر في هضمها وتنفيذها لقرارات المجلس، ومن ذلك الرصد، برزت لائحة القبول والتنفيذ لجميع القرارات التي لا تشكل عبئاً على السيادة أو على استقلال القرار وحرية اختياراتها. كانت هذه مواصفات قطر في تعاملها مع قرارات المجلس خلال قيادة الشيخ خليفة بن حمد لدولة قطر، وانتهت مهمتي في عام 1993، كما تبدلت الأوضاع في قطر بعد أن تولى سمو الشيخ حمد بن خليفة الحكم فيها، ومع هذا التغيير دخلت دبلوماسية قطر في مناخ أكثر وضوحاً في جرأته، وأقوى صوتاً في همته، وأكثر شطارة في تجنيد الإمكانات للمصالح العليا للدولة، مع رسم خطوط لا يمكن تجاوزها في مفهوم السيادة، ومتطلبات الأمن الوطني.
والحقيقة أن الشيخ حمد بن خليفة في مشاركته لاجتماعات وزراء الدفاع لدول المجلس قبل أن يتولى الحكم، كان واضحاً في إبراز هموم الأمن الوطني للدول الأعضاء، وإعطائه الأولوية، فكان ينادي بحل المعلقات الحدودية بين الدول الأعضاء، والخلافات حولها، معتبرها أهم خطوات بناء الثقة، وكنا نسعى في الأمانة العامة إلى الإسراع في اتخاذ القرارات وتنفيذها جماعياً كوسيلة مؤثرة لتذويب الخلافات وإضعاف حدتها، تمهيداً لتجاوزها مع تعاظم المنافع الجماعية، وكنا ندرك تعقيدات مشكلات الحدود ونعمل على إبعادها، متصورين أن الإنجازات تضعف مسامير الحدود، خاصة مع ضخامة المكاسب الجماعية.
لكن ذلك لم يتحقق، ومن فجوة التأخير في تنفيذ القرارات، تصاعدت الحساسية الحدودية، ونقلت همومها وأثقالها ومتاعبها إلى القيادات، التي تؤمن بحل كوسيلة لنجاح مسار مجلس التعاون، ومنها ستصفو النفوس ويتكامل تنفيذ القرارات.
وعندما تأكد فوز قطر باستضافة كأس العالم في شهر نوفمبر الحالي، أصيبت بعض دول العالم بحالة هيجان لا عقلاني، غير مصدقين، مع اتهامات توجه نحو المجموعة التي أشرفت على التصفيات، والبعض أصابته صاعقة المفاجأة فسكت غير مصدق، والآخر راهن على فشل الدولة القطرية في توفير المستلزمات.
ومهما كثرت الإشاعات والانتقادات عن التزوير والإغراء، برز حق قطر غير القابل للتغيير في استضافة الدورة الكروية العالمية، ومن تلك اللحظات، شمرت قطر عن سواعد التصميم، رافضة الاتهامات ومتقبلة التحديات، ورسمت هندسة قطرية تلبي كل ما هو مطلوب.. وتصرف من جيبها الخاص، لم تلتفت لخزائن الآخرين أملاً في المساعدة، وإنما حملت ما تملك وما يتوافر لهذا المشروع غير المسبوق خليجياً وعربياً، وتابعناها تعطينا كل شهر اطمئناناً بأنها لا تعبأ بعواصف الاعتراض، ولا تتحسس من صيحات الخيبة أو من الإشاعات التي يطلقها البعض غيرة وحسداً.
وتواصل العالم متابعاً مفاجآت قطر في استكمال الملاعب والبنية التحتية الحديثة. هذه رواية كتبها التاريخ، وسيبقى سجل النجاح متلألئاً حاملاً اسم قطر، قائلاً إنها لا تخاف من المجهول، ليس في الرياضة فحسب، وإنما في جميع إشكاليات الحياة، هذه الخلطة هي مكونات الظاهرة القطرية، فلا نتجاهل مسلكها في الاستثمار عبر صندوق السيادة القطري، الذي نبع من سلوك وقناعة قطرية في دروب الاستثمار وبروح اقتحامية فريدة ومتنوعة في انطلاقتها، سواء في العقار أو في الصناعة ومتطلبات السيادة، ولا تقف عند الحسابات فيمتد الوقت وتضيع الفرصة.
في لندن أشاهد كيف تحولت السفارة الأميركية في أجمل بقاع لندن إلى مبنى قطري استثماري عجيب في شكله وجريء في تحدياته، بعد أن شيدت بنايات مغرية وتواجدت في بنوك عالمية وانضمت إلى كواكب الصناعيين استثمارياً، وجمعاً للخبرات. ما مفاتيح الأسرار التي يحملها المسؤولون في قطر؟ أوجزها – كما أراها – بما يلي: لا تعبأ بهموم، ولا تخاف من مجهول، وتغدق باليقين بأن غداً سيكون الحصاد، ولا تستحي من الفشل، وتعيش في هذا الكون بقناعة بأن الحياة فيها نجاح وفشل، فيسعدها النجاح، ولا تنهار من الفشل. * عن القبس الكويتية a.bishara@alqabas.com.kw