أكثَرَ اللهُ بواكيك يا حمزة ! – د. أسامة الأشقر

قالت لي امرأة مكلومة: ألا ترَى شدّة ما حلّ بنا، وهَوْلَ ما أصابنا! هل رأيتَ مثل هذا من قبلُ ؟
فكتبتُ لها – وكلّنا مكلوم مصاب- قد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة:

  1. كان يوم أحد من أشدّ الأيام على رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وقد كثر القتل في أصحابه حتى خرجت النساء لمّا سكنت الحربُ يُغثن الجرحى من الإصابات الجسيمة، وكان رسول الله من جملة الجرحى – فداه أبي وأمّي- فقد هُشّمت البيضة “الخوذة”، فشُجّ رأسُه، وكُسِرت رباعيّته، وكثُرت جراحُ وجهه، حتى إن ابنته السيدة فاطمة كانت تغسل جرحه وعليّ زوجُها يسكب عليها الماء بالمِجنّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة عَمَدَت إلى قطعة من حصير فأحرقتها، وألصقت رمادها على الجرح، فاستمسك الدم.
  2. كان المشهد في ميدان أحُد دامياً جداً يُفتِّت أكباد الرجال فكيف بالنساء! فقد رأى رسول الله أكثر من سبعين من أصحابه قتلى بين يديه، ولم يكن قتلاً عاديّاً، فقد توحّش الأعداء في التمثيل بأجساد هؤلاء الصحابة السابقين، وإهانة جثامينهم، لنشر الرعب في صفوف العامة من المسلمين، وتأليب من بقي على الكفر من أهل المدينة، ودفعِهم لإثارة الفتن.
  3. كان واحداً من أشدّ ابتلاءات رسول الله ما أصابه في عمّه وأخيه من الرضاعة حمزة بن عبد المطلب، فقد قطعوا أذنيه، وجدعوا أنفه، وقطعوا مذاكيره، واستأصلوها، وبقروا بطنَه، واستخرجوا كبده؛ وقد وصف ابن مسعود مشهد حزن رسول الله: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قطّ أشدَّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب؛ وضَعَه في القِبلة، ثم وقف على جنازته، وانتَحَب، حتى نَشَع من البكاء.
  4. وصلّى رسول الله على أصحابه القتلى واحداً واحداً، وكان يجعل حمزة في كل صلاة، حتى إنه صلى عليه اثنتين وسبعين صلاةً.
  5. وقد كان حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديداً حتى جعل أبو قتادة الأنصاري يريد أن ينال من قريش بلسانه سبّاً مُقذعاً لِما رأى من غمّ رسول الله في قتل حمزة، وكيف مثل به، فنهاه عن ذلك.
  6. وأقبلت شقيقة حمزة من أمه وأبيه، صفيّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله تريد أن ترى أخاها، فأشفق عليها رسول الله، وقال لابنها الزبير بن العوام: القَها فأرجِعها، لا ترى ما بأخيها! فقال لها: يا أمَّهْ! إن رسول الله ﷺ يأمرك أن ترجعي، قالت: ولِم؟ وقد بلغني أنه قد مثّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبنّ، ولأصبرنّ إن شاء الله، فلما جاء الزبير بن العوام إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: خلِّ سبيلها! وخاف رسول الله على عقل عمّته صفية بنت عبد المطلب، فوضع يده على صدرها، فأتت أخاها، فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له.
  7. وهنا قصة في الإيثار عجيبة، يقول ابن عباس: وأتت صفية بثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله، فكفّنوه فيهما! قال: فجئنا بالثوبين لنلفّه فيهما فإذا إلى جنبه رجلٌ من الأنصار، فُعل به مثل ما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضةً وحياء أن نكفّن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفنَ له، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقر عنا بينهما فكفّنا كلاً منهما في الثوب الذي طاوله؛ ويصف صحابيّ آخر هذا المشهد: إن حمزة لم يوجد له كفن إلا بُردة مَلْحَاء إذا جُعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مُدّت على رأسه، وجُعل على قدميه الإِذْخِر .
  8. وقد أصيب رسول الله أيضاً في ابن عمته أميمة بنت عبد المطلب، فقد قتل الأعداء عبدَ الله بن جحش الأسديّ، وجدعوا أنفه وأذنيه، فدفنه رسول الله مع خاله حمزة في قبر واحد.
  9. ولمّا رجع رسول الله من أُحد، بات ليلة واحدة في المدينة قبل أن يلحق قريشاً في حمراء الأسد، فسمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهن، فقال: “لكن حمزة لا بواكي له”، فبلغ ذلك نساء الأنصار، فجئن يبكين على حمزة قبل أن يبكينَ أزواجهنّ تضامناً مع رسول الله وتشارُكاً له في حزنه الشديد.
  10. وما كان رسول الله يطلب من الناس أن تبكي بدموعها على حمزة، وإنما أراد استدعاء القلوب على التراحم والتعاطف، وألّا ينصرف الناس عن أوجاع الآخرين من شدة انشغالهم بأوجاعهم، وأن يهتمّ أصحاب المُصاب بمُصاب الآخرين من حولهم، فهذا أسرعُ في تسليتهم وأبلغُ في عزائهم وأبعدُ عن انغماسهم في اكتئابهم، بعموم المصيبة؛ ولمّا وصل الخبرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تفعله نساء الأنصار انتبه رسول الله من الليل، فسمعهنّ، وهنّ يبكين، فقال: “ويحَهُنّ، لم يزلْنَ يبكين بعدُ، منذ الليلة! مُرُوهنّ، فليرْجِعن، ولا يَبكِينَ على هالكٍ بعد اليوم!”، والويحُ هنا كلمة جميلة متعاطفة تقال لمن استُحِقّ الاسترحامُ له؛ لوقوعه في هَلَكة، وتدعو له بلزوم الويح والرحمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى