شاهدت مقطعًا لفتيات (لا أعلم من هنّ، ولا أعنيهن بكلامي)، يرددن بحماس وفرح أغنية تتحدث عن غزة، وما تعانيه من أهوال وجور، ومن ثم يستكملنّ المقطع وهنّ في احتفال صاخب ضخم على وقع الأغنية ذاتها، وما راعني في هذا المشهد أن الفتيات والجمهور الكبير معهنّ، يردد هذه الأغنية بابتسامة ظاهرة، وبسرورٍ ظاهر واضح، وجلّ من ظهر في المقطع يتمايل طربًا على وقع الإيقاعات، بيد أنني -والكثيرون مثلي- كلما مرت معي مثل هذه الترانيم، لا يشعرون إلا بالحزن يفتك أكبادهم، ويحرق أفئدتهم، ونقرع أنفسنا عن تقصير لا ريب تجاه أعلنا الكرام في القطاع الصامد، وفي كل لحظة من تلك اللحظات أستحضر آلاف الصور التي علقت بالذهن لا إراديًا، صورٌ مؤلمة، مؤرقة، لا يملك أي “إنسانٍ” أمامها إلا سكب العبرات، ولو كان المرء منا جالسًا في عمله، أو ما بين أبنائه، فالعجز المطبق شعورٌ لا يُطاق، هي حالة لا إرادية فوق التحكم..
أعود للمقطع الذي أشرت له في بداية الكلام، وقد راعني فيه أمرين، الأول أن الأغنية وموضوعها لم تؤثر في المستمعين، بل تراهم يقفزون والفرح يتملكهم، يرددونها وكأنها أغنية عن التخرج أو النجاح، أو عن الحب. أما الثاني، فهو أداء الفرقة لها في حفل ضخم جدًا، فيه من الأضواء والصخب ما فيه، فإقامة مثل هذه الحفلات في ظل هذه الظروف، خيانة لدماء الشهداء، مهما حاول البعض تجميل التوقيت، والادعاء بأنها تخدم “القضية” وغير ذلك من أفانين القول، والحيل التي لا تجدي نفعًا، أمام هول المجزرة والعدوان، وهي ليست من باب الاحتفالات الشخصية، أو تلك “الوطنية” التي لديها قوالب محددة واضحة، لأن الحياة لا تتوقف، ولكنها هي جزء من حالة الخدر التي نعيشها، فيتحول من يحضرها إلى “بطلٍ”، ليس إلا لأنه ردد الأغنية وارتدى “الكوفية” وهو “يرقص” في هذا الحفل البهيج، وقد مر معي منذ أيام تغريدة لصحفية من غزة، تتحدث بأن العدوان أصبح مصدر رزق للعديد من الفئات، وفي سياق الحدث، ربنا أصبح لدينا فئة أُخرى ممن ينظم الحفلات الضخمة، ويجمع “اللايكات”، ويخدّر الناس بأن حفلاتنا “تتضامن”، إذ سيحتوي البرنامج على “أغنية” عن غزة..
سيقول لي أحدهم هذا أدبنا أترع مقاطع حزينة، تبكي الحجارة الصماء فما الفرق، بين أغنية في حفل تتحدث عن العدوان ومعاناة الخلان. أقول له بأن الحالتين مختلفتين وذلك من أوجه كثيرة، أولها أن الأدب العالي لا يستجلب الرقص والخدر، بل هو رسول لحالة الكاتب ومعاناته، فكيف إن كانت معاناة بهذا الحجم، أما ثاني تلك الأوجه، فتفاعلنا مع الأدب لا يكون إلا بوجه القراءة، فتظل حالة شخصية، يخاطب فيها الأديب القارئ بمفرده، ولا يدعوه ليذهب إلى ميدانٍ عام ويقرأ بصوتٍ عال متهدج مقاطع ليذرف الجموع الدموع جماعيًا، أما في تلك الحفلات، فلن يتجاوز الناس أغنية عن غزة، إلا لغيرها عن شتى أحوال الإنسان، ويظل “الطرب” و”الرقص” حالة مستمرة على إيقاعات صاخبة وأضواء لا تتوقف…
هناك من يبرر حالة الحزن العرجاء تلك بأنها من “الحزن الجميل”، وكأنها حيلة أخرى للمضي في تشتيت الجموع، والرقص على الجراح، فالحزن الجميل هو ذلك المتعلق بالله تعالى، يحزن فيه المرء على الذنب، ويتعلق به ليظفر بالتوبة، الحزن الجميل، من يصبر على ابتلاء من الباري جلّ في علاه، فيتوكل عليه، ويتصبّر بما يستطيع، حزنٌ صامت لا يتعالى على الناس، ولا يتكبر عليهم، حزنٌ لا يوقف العمل، ولا يدفع للطرب، حزن طبيعيّ، كما عهدناه منذ أن فتحنا عيوننا في هذه الدنيا، لا تلك المشاعر الهزيلة التي نضعها في صورةٍ نعلقها على الجدار، أو في معرض في أنفاق الميترو والقطارات، حزنٌ الناس منهم وإليهم..
أعود للبداية وأستميح القارئ عذرًا، فإني أبث إليك بعض ما حاق في صدري، وقبل أي شيء آخر، أحدثك قليلًا عن استمراء العدوان، عن استساغة الفظائع، وتقبل مشاهد الموت والدمار والقتل والتشريد والتهجير، عن تراجع الاهتمام، فالمقاطع أصبحت محطة للتأسف ليس إلا، ومن ثم ننتقل مرة أخرى إلى “ريلز” آخر، يتحدث عن الطعام، أو عن الهاتف المطويّ الجديد، أو غير ذلك، نغرق في بحر هادرٍ من التفاهة، وننساق خلف السفاسف، وغير ذلك، وفي هذا الباب كثير مما يُمكن قوله، وأكثر مما يصعب على الإنسان بوحه.
أخيرًا، لا نستطيع أن نحمل الناس على حالة واحدة، ولكننا ونحن نقترب من الذكرى الأولى للطوفان، وأمام التضحيات الجليلة، التي ما زال يقدمها أهلنا الكرام في القطاع، لا بدّ من قليلٍ من الحزن، ولكننا أحوج إلى الكثير من الأدب، أن تتواضع إنسانيتنا قليلًا، وأن نتأدب مع الباري جل في علاه أولًا، ومع أهلنا الكرام في القطاع ثانيًا، لا يمكن أن تتحول المأساة إلى “سبوبة”، ولا أن نحول الواقع المرّ، إلى أغنية نرددها “لو مرة بس”، وفي النهاية نركن إلى الواقع المرير، نعلل النفس، ونختلق الأعذار، لأننا شعوب “ليس بيدنا حيلة”، ولكن الجواب حاضر ملأ السمع والبصر: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (النساء) 95 .