- المراثدة أقوام اختصّهم الله بفكاك الأسارى، وحملِهم في عمليات خاصّة نوعيّة تتّسم بالصعوبة، وتحتاج إلى إرادة نافذة وقوة بدنيّة ودهاء أمنيّ وجاهزيّة سريعة والتزام عقديّ وثيق.
- أوّل سابقيهم هو مَرْثَد الغنويّ، تعود أصوله إلى قبائل قيس عيلان المضريّة، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، ومن البدريّين أيضاً، شارك هو ووالده في بدر، ولم يشهد بدراً رجلٌ وابنُه إلا مرثد وأبو مرثد، وشاركا أيضاً معاً في أحد، وأكثر أخباره تختص بأدواره في فكاك الأسرى.
- كان مرثد صاحب قنص، وكان جريئاً شجاعاً، وقد تمكّن من تحرير والده أبي مرثد الذي أسرته بعض العرب في قضيّةٍ، فدبّ إليه مرثد بشعلة نار فأحرق بها إسارَه المربوط في يديه وقدميه، ثم خرجا من ليلتهما حتى تغيّبا في غار، ثم لحقا بمكّة، وحالفا قنّاصاً شجاعاً مثلهما هو حمزة بن عبد المطلب، فقد كان أبو مرثد وحمزة متقاربي العمر، ويبدو أنهما أسلما على يديه، إذ لم يتحرّر زمانُ إسلامه بمكّة، وبقي حلفهما معه حتى بعد هجرتهم إلى المدينة عقب وصول رسول الله إليها، وكان أبو مرثد يحمل راية حمزة في سراياه.
- كان مرثد في أواخر الثلاثين من عمره تقريباً إذ كان بينه وبين ولده أنيس نحو واحد وعشرين سنة.
- كان مرثد عظيم البنية شديداً قويّاً، طويل القامة كأبيه، وكان فارساً، ويؤثَر عنه أنّه كان أحد اثنين ممن شارك بفرسه المعروفة باسم “السيل” في غزوة بدر، بل إنّه أسر وحده ثلاثة من رجال قريش؛ وكان رسولُ الله يعتقب فرسَه أو بعيره ويتناوب عليه معه في بدر.
- كان مرثد ذا شخصيّة عسكريّة وأمنيّة، ولهذا كان يكلّفه رسول الله بمهمات خاصّة كان آخرها قيادة سريّة الرجيع عقب أحد التي أبَى أن يؤسَر فيها أو يستسلم ليباع إلى قريش لتنتقم منه، وقال: لا نقبل من مشركٍ عهداً، فقاتلهم مع رفاقه القرّاء حتى ارتقوا إلى ربهم، وخلّف مرثد وراءه ابنَه أُنيساً الذي كان حارس النبيّ وعَيْنَه في حُنين بأوطاس، أيْ أنّه اشتغل في العمل الأمني كوالده .
- كان أخطر مهمة يقوم بها مرثد تحرير أسرى المسلمين الذين منعتهم قريش من الهجرة، وحبستهم في مكة، وقيّدتهم، وجعلت عليهم حراسة مشددة في خيام محاطة بحيطان جُعِلت خصيصاً لاستيعاب هؤلاء الشباب المسلمين، وقد ظلت قضية هؤلاء الأسرى قائمة حتى جرى تحريكها في صلح الحديبية، وكانت سبباً في لحوق نحو 300 من هؤلاء إلى مجموعات أبي بصير وأبي جندل التي قطعت الطريق على تجارة مكّة وأرهقتها حتى طلبت قريش من رسول الله استثناء قضيتهم من الاتفاقية، وما تزال قضية إطلاق سراح هؤلاء الثلاثمائة تحتاج إلى توضيح، وربما كان ذلك نتيجة عمليات خاصة لم تكشف عنها مرويات السيرة للأسف استثمر فيها رسول الله عبر تحالفاته القبلية الجديدة في المنطقة.
- طبيعة مهمة مرثد كانت تتضمّن توفير المعلومات والتواصل مع هؤلاء الأسرى، كما تتضمن تنفيذ عمليات التحرير ونقل الأسرى إلى المدينة.
- يظهر لي أن مرثد كان يعتمد في اختراق منظومة الأمن القرشية على علاقاته السابقة في الجاهلية، ويبدو أن أحد مصادره في تلقّي المعلومات عن هؤلاء الأسرى إحدى البغايا اللواتي صادَقَهنّ قبل إسلامه، وقد كشفت إحداهنّ واسمها “عَناق” مهمته، وكادت أن تتسبب في القبض عليه عندما تعرفّته في إحدى العمليات الليلية لتحرير أحد الأسرى عندما لمَحتْ ظلّه في ليلة مقمرة مضيئة ، فطلبت منه أن يبيت عندها فأبَى عليها ذلك وقال لها إن الإسلام حرّم الزنا فغضبت منه، ونبّهت الحرّاس عليه، فلاحقه ثمانية من الحرّاس فترك أسيره، ووعده بالعودة إليه وعدمِ ترِكه بين آسريه، وتخفَّى في كهف في جبل الخندمة المعروف بمكّة، وكان مرثد يحكي أنّه عاد إلى هذا الأسير وحمله وكان ثقيلاً حتى أوصله مأمنه.
- ويظهر لي أن مرثد كان حريصاً على استمرار مصدر معلوماته، ويدرك حساسية المهمة، فتغاضَى عمّا فعلته “عَناق”، وطلب من رسول الله أن يأذن له في الزواج منها لتظل مصادره فعّالة، لكن رسول الله لم يأذن له، لأنها زانية، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك.
- كان مرثد يوصل المعلومة إلى الأسرى ليستعدوا، فيحدد لهم ميقات العملية، ويتسلل ليلاً إلى خيامهم، فيقوم بحملهم بقيودهم، وهذا يحتاج إلى بنية قوية، ويظل يحملهم في هدوء وصمت وخفّة حتى يصل إلى مكان مفتوح في بطون الأودية المنبسطة حيث ينمو الإذخر لا يسمعون فيه أصوات كسر الأكبال ولا صداها، ثم ينقلهم بعد ذلك إلى المدينة.
- إن قضيّة تحرير الأسرى كانت واحدة من أولويات رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه التي لم يفطَن لها الكثير من كُتّاب السيرة، ولعل الله ييسّر جمع جزء فيها يبيّن حضور هذه القضية وأولويّتها في الإدارة النبويّة، وتطبيقاتها التي تفصّل النصوص العامة المذكورة في فكّ العاني.