القلب مركز الروح والمعرفة: بين الجسد والسماء – أ.د. قيس عبدالعزيز الدوري

في عالمٍ يُختزل فيه الإنسان إلى مجرد جسد مادي، يتناسى كثيرون أن جوهر الإنسان الحقيقي يكمن في قلبه وروحه، لا في عضلاته وعقله وحده. فالقلب ليس مجرد مضخة تضخ الدم، بل هو وعاء المعرفة الروحية، ومركز الإشراق الإلهي، وجسرٌ يصل بين الأرض والسماء.

القلب بين المادة والمعرفة

القلب، كما يصفه القرآن، ليس أداة مادية فحسب، بل هو مركز الفهم والإدراك العميق. يقول الله تعالى:

“لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا” (الأعراف: 179)،

وهذا يؤكد أن الفقه والإدراك الحقيقي لا يأتيان فقط من العقل المجرد، بل من قلبٍ واعٍ مستنير.

إن الفلاسفة والمتصوفة على مر العصور نظروا إلى القلب باعتباره محل المعرفة العلوية، فهو الذي يستقبل الفيض الإلهي، ويهتدي إلى الحقائق التي لا تدركها العقول وحدها. وكما يقول الإمام الغزالي: “العقل نور، لكنه لا يضيء إلا بقلب نقيّ.”

الروح: نفحة إلهية ومعبر للمعرفة

إذا كان القلب هو المركز، فإن الروح هي الوسيط بين الإنسان والسماء. فهي نفخة إلهية تحمل سرّ الحياة، وهي التي تجعل القلب مُستعدًا لتلقي الحكمة والمعرفة. وحين يكون القلب طاهرًا، فإن الروح تُفيض عليه نورًا وبصيرة، وحين يكون معتمًا بالشهوات، تنقطع عنه منابع الحكمة.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

“إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين” (رواه الطبراني).

فمن أراد أن يكون وعاءً للنور الإلهي، فعليه أن يُطهّر قلبه من الأهواء والضغائن، وأن يجعله مستعدًا لاستقبال الحكمة.

النفس بين الجذب والعلو

النفس البشرية، كما وصفها القرآن، تمرّ بمراحل متعددة:

1. النفس الأمّارة بالسوء: تتبع شهوات الجسد وتنحاز إلى الأرض.

2. النفس اللوّامة: تصارع بين الجسد والروح، وتخوض معركة الارتقاء.

3. النفس المطمئنة: تنجذب إلى الروح، فتسمو، وتجد السلام في القرب من الله.

حين تغلب الروحُ الجسدَ، يصبح الإنسان متزنًا، مليئًا بالحكمة، يرى بنور القلب ما لا يُرى بالعين. أما إذا غلب الجسدُ الروحَ، أصبح الإنسان مجرد آلةٍ تسعى خلف الملذات الفانية.

كيف نرتقي بالقلب والروح؟

إذا أردنا أن نجعل قلوبنا وعاءً للحكمة، وأرواحنا طريقًا للمعرفة، فعلينا:

1. الإكثار من الذكر والتأمل: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” (الرعد: 28). فالذكر يجلو القلب، ويجعله مستعدًا لتلقي الفيض الإلهي.

2. التحلي بالتقوى والورع: فكلما زاد صفاء القلب، زادت قدرته على استقبال الحكمة.

3. مرافقة الصالحين وأهل العلم: لأن القلوب تستمد نورها ممن تجالسهم.

4. التفكر في أسماء الله الحسنى: فكل اسم إلهي يحمل معنى يُزكّي القلب، وينير الروح، ويرتقي بالنفس.

الخاتمة: بين القلب والعقل

في عصرٍ يقدّس العقل ويهمّش الروح، علينا أن نعيد التوازن بين القلب والعقل. فالعقل أداة تحليل، لكنه يحتاج إلى قلب مُستنير ليهتدي إلى الحكمة الحقيقية.

الإنسان ليس مجرد عقلٍ يفكر، ولا جسدٍ يتحرك، بل هو قلبٌ ينبض بالمعرفة، وروحٌ تسعى إلى النور، ونفسٌ تختبر بين الشهوات والسموّ. فمن أدرك هذه المعادلة، وجد الطريق إلى السلام الحقيقي، وعرف المعنى العميق للحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى