هذه العقبة ليست أي عقبة، وما أدراك ما العقبة! فلا يقتحمها بإذن الله وإرشاده إلا مَن استبان له نَجْد النجاة من أصحاب الميمنة المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة.
إذا أسغب المرءُ فإنه يَدخل في حال المجاعة والتعب، ولكنه إذا كان ذا مسغبة، فإن هذه المسغبة تتلبّس به، وتحتويه، وتختصّ به، ولا تفارقه، فثمّةَ فرقٌ كبير بين المُسغِب وذي المسغبة.
والمسغبة التي تضرب أهل الثغر اليوم ليست مجرد مجاعة ترهقهم، وليست شعوراً بالجوع لقلة الطعام، وإنما هي فراغ الجوف من أيّ طعام احتياطيّ يختزنه الجسم عند الحاجة الشديدة، وافتقاد القدرة الطبيعية للجسم على الاحتمال، واضطرار الجسم لكسر جدار المناعة الطبيعيّة، وإطفاء جميع محركات الحركة، وتعطيل حسّاسات الإدراك، وفتح طريق الأمراض المترصّدة لتتموضع في الجسد اليائس المستسلم بدنيّاً ونفسيّاً.
وإذا استبدَت المسغبة في القوم دهراً فستجدهم على حالين: إمّا أيتاماً جمعهم اليُتم لكثرة ما فقدوه من أهاليهم ومُعيليهم ودمار كل مصدر ومَوْرد، فلم يعُد ثمة سبب للقرابة إلا فقدُ هذه القرابة، فيصبح الجميع أيتاماً أقربين.
أو تراهم جميعاً مساكين ذوي متربة، فهذا المسكين الذي تراه يقاتل من أجل البقاء ليس الفقير الذي لا يجد قوت يومه، وإنما هو إنسان قادر عامل، ولكنه لا يجد حيلةً للكسب، ولا فرصةً لاستثمار ما لديه، ولا مجالاً لأي نجاح، وتعاكسه ظروفه الصعبة والمستحيلة، أو حلّ الدمارُ بكل ما حوله فأنهى كل خياراته، أرأيتَ أصحاب السفينة المساكين الذين كانوا يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً؛ وهكذا ترى شعبنا من هذا النوع المسكين الذي لا حيلة لديه في إيجاد رغيف أو ماء، ولا يجد إلا التراب ليلتصق به من العجز، أو يتعفّر به من البحث المضني في التلال والمخانق والمضائق، وكأنّه يريد العودة إلى التراب الذي خلقه الله منه، فيكون ذا مَتْربة مفترشاً إياه في خيمة نزوحه، وهو على آخِر رمقٍ من حياةٍ، يواسيه أنّ الله قد يبعث له أمثال العبد الصالح الخضِر.
ولأننا في حصار أحمر مستديم يَسُوقنا فزِعين إلى أسوأ الزوايا المحطّمة الفارغة، فإن رقابنا كلها مأخوذة مأسورة مقبوضة، قد أوثقت كل رقبة منها برقبة مَن معها، يتيقّنون الموتَ القريب في خضوع واستسلام، وفي إيمان رطبٍ أيضاً، ورِضاً ناعم ألقاه الله في رُوعهم.
هنا يأتيك أمر الله، ليس أن تَبْلغ العقبة وتنظر إليها أو ماوراءها، بل أن تقتحم هذه العقبةَ بالإنفاق والإطعام والنجدة، والاقتحام فعلٌ حربيّ شديدٌ هنا يجب أن تقاتل فيه، وأن تصرّ عليه، وألّا تدع قانوناً ولا إجراء ولا حساباً يمنعك من تجاوزه.
وأن تقتحم هذه العقبة العسيرة بفكّ الرقاب، وتخليصها، وانتزاعها من الأسر والقبض والحصار، بكل فعلٍ فائقٍ تستطيعه يدك أو لسانك أو عقلُك أو قلبُك بكل جرأة وإقبال وقناعة.