تشهد منطقة الخليج العربي اليوم واحدة من أخطر اللحظات الجيوسياسية في تاريخها الحديث، بعد أن تحوّلت التوترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى صراع مفتوح تتخلله ضربات عسكرية مباشرة وتهديدات إقليمية متبادلة.
وفي ظل هذا التصعيد المتسارع، تتفاوت مواقف دول الخليج بين الحذر والانخراط، بين الصمت السياسي والمناورة الدبلوماسية، لكن الموقف القطري تحديدًا برز بصفته نموذجًا فريدًا في هندسة الاستقرار في لحظة يغلب فيها منطق السلاح على لغة العقل.
قطر… دبلوماسية الحكمة في لحظة اللاعقل
في الوقت الذي تسارع فيه بعض القوى إلى الاصطفاف المباشر مع أطراف الصراع، اختارت قطر أن تسلك طريق الدبلوماسية الهادئة والعقلانية.
لم يكن هذا الدور مجرد سياسة حياد، بل كان نشاطًا سياديًا فاعلًا استثمر علاقاتها الدولية المتوازنة، وثقلها السياسي الإقليمي، لبناء جسور خلفية بين واشنطن وطهران، في محاولة للحد من اندفاع المنطقة نحو الفوضى.
استثمرت الدوحة موقعها الجيوسياسي الفريد وعلاقاتها المتوازنة مع كافة الأطراف لتلعب دور “صمام الأمان” الإقليمي. فقاعدة العديد العسكرية استُخدمت كمنصة عمليات أمريكية، في الوقت الذي احتفظت فيه قطر بقنوات اتصال مباشرة وغير مباشرة مع طهران، وهو ما أهلها لتكون الوسيط الوحيد القادر على فهم لغة الطرفين وطمأنة كليهما.
في لحظة كان يُتوقع فيها أن تختفي أصوات التهدئة، رفعت قطر صوتها بالدبلوماسية، وقدّمت للعالم نموذجًا بأن القوة لا تكمن في امتلاك السلاح، بل في القدرة على منعه من الانفلات.ولذلك تنطبق على قطر الايه الكريمة (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب )البقرة ٢٦٩ .
الخليج… حسابات دقيقة بين الأمن والسيادة
السعودية تراقب الوضع بحذر أمني عالٍ، خاصة مع تكرار الهجمات الحوثية على منشآت جنوب المملكة. ورغم التزامها الاستراتيجي بتحالفاتها، تسعى الرياض لتجنّب الانخراط العسكري المباشر.
الإمارات تتعامل مع التصعيد بحساسية اقتصادية واستراتيجية، نظرًا لمكانتها كمركز مالي وتجاري عالمي. وتحتفظ أبوظبي بقنوات تواصل محسوبة إقليميًا.
الكويت والبحرين في حالة تأهب عالية، نظرًا لاحتمال تعرضهما لهجمات عرضية أو أعمال تخريبية.
أما سلطنة عُمان، فتواصل أداء دورها التاريخي في تقريب وجهات النظر، بالتنسيق الوثيق مع الشقيقة قطر.
التصعيد العسكري في الميدان
الولايات المتحدة الأمريكية تنفذ عمليات دقيقة ضد منشآت إيرانية، في حين ترد إيران بتهديدات مباشرة تشمل استهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وإمكانية إغلاق مضيق هرمز.
كما تلوّح طهران باستخدام أوراقها في المنطقة، بدءًا من حزب الله في لبنان، ومرورًا بالحشد الشعبي في العراق، وصولًا إلى الحوثيين في اليمن.
في المقابل، تستمر إسرائيل بتوسيع عملياتها العسكرية، في ظل غطاء سياسي أمريكي، ما يزيد من احتمالية انزلاق المنطقة إلى مواجهة إقليمية شاملة.
الاقتصاد العالمي يتأرجح تحت الضغوط
مع اقتراب المضائق البحرية من خطر الإغلاق، تجاوزت أسعار النفط حاجز 115 دولارًا للبرميل، وارتفعت تكاليف التأمين البحري بشكل غير مسبوق.
الأسواق الخليجية تتعرض لضغوط مالية متزايدة، في حين تُجبر الدول الكبرى على إعادة حسابات الإمداد النفطي.
كما تهدد حالة اللايقين الحالية بتعطيل سلاسل التوريد العالمية، وتراجع حركة التجارة، خاصة في الموانئ الحيوية مثل جبل علي، والدمام، والدوحة.
قراءة استراتيجية للخطر المقبل
ما يحدث اليوم ليس مجرد صدام عسكري محدود، بل مقدمة لتحول استراتيجي يُراد له إعادة تشكيل خارطة النفوذ في الخليج.
تسعى الولايات المتحدة لتثبيت معادلة “ردع دائم لإيران”، فيما تحاول طهران إثبات قدرتها على الصمود والمناورة.
وبين هاتين القوتين، تبدو دول الخليج بحاجة إلى عقلانية شبيهة بتجربة قطر، التي تمكّنت حتى الآن من تفادي الانجرار، بل ونجحت في لعب دور تهدئة قد يمنع اشتعال المنطقة بأكملها.
وأخيراً في لحظة يبدو فيها الجنون سيد الموقف، تثبت بعض الدول أن الحكمة ليست ضعفًا بل استراتيجية.
تُظهر قطر اليوم أن الدور الإقليمي الفاعل لا يُقاس بحجم القوة العسكرية، بل بمدى التأثير والقدرة على بناء الجسور بين الخصوم.
وفي ظل تسارع الأحداث، فإن استمرار النهج القطري في التهدئة والوساطة يمثل فرصة ثمينة لتجنب مواجهة واسعة ستكون شعوب الخليج وقودها الأول.
ومن موقعنا في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات، نؤكد أن السلام المستدام لا يُبنى بالقوة، بل بالإرادة السياسية الواعية، التي جسدتها قطر في واحدة من أعقد لحظات المنطقة السياسية على الإطلاق .