أستاذ التاريخ والدبلوماسية: شراكة استراتيجية لصناعة القرار الواعي – أ.د. قيس عبد العزيز الدوري

في عالم تتشابك فيه السياسات، وتتصارع فيه القوى، وتُبنى فيه المواقف على جذور الماضي بقدر ما تُصاغ برؤى المستقبل، يبرز التاريخ كعنصر تأسيسي لا غنى عنه في العمل الدبلوماسي. فليست وزارة الخارجية جهازًا إداريًا فحسب، بل عقل الدولة الهادئ في صخب العالم، ولسانها في المحافل الدولية، وروحها في إدارة العلاقات. وفي قلب هذا الكيان يقف المعهد الدبلوماسي بوصفه مؤسسة لإعداد صنّاع الموقف، وفي لبّ هذا الإعداد يأتي أستاذ التاريخ كركيزة معرفية واستراتيجية لا يمكن تجاوزها.
أولًا: لماذا يحتاج المعهد الدبلوماسي لأستاذ التاريخ؟
1. لأن التاريخ ذاكرة الدول:
كل دولة تصوغ سياساتها الخارجية بالاستناد إلى تجاربها، حروبها، تحالفاتها، صراعاتها، وخبراتها. ففهم خريطة المصالح يتطلب فهم خريطة التاريخ. من هنا فإن أستاذ التاريخ هو من يقدّم للملتحقين بالمعهد خلفية معرفية معمّقة.
2. لأن العلاقات الدولية تُفهم من خلال تسلسلها الزمني:
الدبلوماسي لا يتعامل مع لحظة معزولة، بل مع سياق ممتد. الصراع العربي الإسرائيلي، العلاقات الخليجية-الإيرانية، أزمة الحدود وغيرها، كلّها قضايا لا يمكن فهمها دون إطلالة تاريخية.
3. لأن الخبرة لا تُفصل عن العمق:
أستاذ التاريخ يعمّق المهارات الدبلوماسية ويمنحها أساسًا مفاهيميًا يساعد الدبلوماسي على قراءة الحاضر وصناعة القرار بوعيٍ متكئ على خبرات الماضي.
ثانيًا: ما الذي يقدّمه أستاذ التاريخ داخل المعهد الدبلوماسي؟
1. التأصيل الفكري للمفاهيم الدبلوماسية ضمن أطرها التاريخية.
2. تدريس مساقات جوهرية مثل:
• التاريخ الدبلوماسي للدولة.
• تطور العلاقات الدولية.
• تاريخ النزاعات الإقليمية.
• تاريخ المنظمات الدولية.
• التحولات الجيوسياسية الكبرى.
3. تقديم دراسات حالة تحليلية تساعد المتدربين على فهم المشهد الدولي من خلال العدسة التاريخية.
4. إنتاج مواد علمية مرجعية باللغتين العربية والإنجليزية تعزز من محتوى التدريب وتغذّي الفكر الدبلوماسي الوطني.
ثالثًا: أستاذ التاريخ كعنصر نجاح في برامج المعهد الدبلوماسي
إن وجود أستاذ التاريخ لا يُعدّ إضافة تجميلية، بل شرطًا لإنجاح أي برنامج تدريبي دبلوماسي؛ فهو:
• يعزّز العمق المعرفي لدى الدبلوماسي.
• يدعم صناعة القرار من خلال ربط الحاضر بالماضي.
• يعالج المغالطات الشائعة حول بعض الملفات السياسية.
• يسهم في حفظ الرواية الوطنية من التشويه أو النسيان.
رابعًا: نماذج من التجربة الدولية والعربية
• في فرنسا: تعتمد المدرسة الوطنية للإدارة ENA على مواد تاريخية معمّقة لفهم تطور مؤسسات الدولة والعلاقات الدولية.
• في بريطانيا: تولي جامعتا أكسفورد وكامبريدج اهتمامًا لدمج التاريخ مع السياسة ضمن برامج إعداد موظفي الدولة.
• في مصر والمغرب وقطر: هناك توجه متزايد لإشراك الأكاديميين من المؤرخين في تصميم برامج التدريب الدبلوماسي.
خامسًا: دعوة لتفعيل الدور وتوصيات
1. ضرورة وجود أستاذ تاريخ بدرجة بروفيسور ضمن طاقم أي معهد دبلوماسي.
2. تطوير مساقات تخصصية في التاريخ السياسي والدبلوماسي.
3. تخصيص حلقات نقاش يقودها المؤرخون لربط الأحداث الجارية بجذورها.
4. التعاون مع كليات التاريخ والعلوم السياسية في الجامعات.
5. توظيف البحث التاريخي في دعم السياسة الخارجية وصياغة المواقف.
واخيراً فإن أستاذ التاريخ في المعهد الدبلوماسي ليس زائرًا ثقافيًا، بل شريكًا استراتيجيًا في صناعة الكادر الدبلوماسي. هو ليس راويًا للماضي، بل بانيًا لجسور الوعي بين ما كان وما ينبغي أن يكون. فمن أراد أن يحسن التفاوض، فليحسن أولًا الفهم، ولا فهم بلا تاريخ، ولا تاريخ بلا مؤرخ، ولا دبلوماسية راشدة بلا أستاذ تاريخ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى