سبق أن كتبت مقالًا بعنوان “ساعة الصفر… حين تصمت الكلمات وتتكلم اللحظة”، ونشرته في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات، وتناولت فيه مفهوم ساعة الحسم، وتاريخها في الحروب والانقلابات والسياسة. وقد أشرت هناك إلى أنني عرفت هذا المصطلح لأول مرة في ثمانينات القرن العشرين، حين كنت طالبًا في الكلية العسكرية العراقية الأولى ببغداد، حيث تعلّمت أن الساعة ليست دائمًا أداةً لقياس الزمن… بل قد تكون أمر عمليات، أو شفرة قلب، أو بداية نهاية.
أما اليوم، وبعد مسيرة طويلة في التاريخ والبحث والتأمل، فإنني أجد لزامًا عليّ كمؤرخ أن أفتح هذا الملف الواسع: ملف “الساعات” في كل اتجاهاتها — العلمية، البيولوجية، النفسية، الفلكية، الغيبية، والرمزية — حتى أعطي هذا المصطلح المركّب ما يستحق من التدبّر والشرح.
✦ الساعة في القرآن الكريم: تجلّي الحسم والرهبة
القرآن الكريم تحدّث عن “الساعة” لا بوصفها توقيتًا زمنيًا، بل كـ”مصير كوني” يُطوى فيه الزمن وتنقلب فيه الموازين. وردت كلمة “الساعة” في أكثر من 40 موضعًا، منها:
“اقتربت الساعة وانشق القمر” (القمر 1)
“يسألونك عن الساعة أيّان مرساها” (النازعات 42)
“أتى أمر الله فلا تستعجلوه” (النحل 1)
الساعة هنا ليست موعظة… بل وعدٌ لا يُبدَّل، وإن غاب توقيته عن البشر.
هي لحظة الحقيقة، حين يُكافأ من صبر، ويُحاسب من ظلم، وتُنسف الجبال، ويُبعثر ما في القبور.
✦ ساعات النحس في القرآن: حين يغضب الزمن بإذن الله
في القرآن أيضًا، نقرأ عن أوقاتٍ بعينها، وصفها الله بأنها نحسات:
“فأرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في أيامٍ نحساتٍ لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا” (فصلت 16)
“إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحسٍ مستمر” (القمر 19)
إنه التوقيت الذي ينزل فيه العذاب بزمنٍ قد خُتم عليه بالنقمة.
فيه درسٌ عميق: أن الوقت ليس محايدًا دائمًا… فقد يُصبح “النحس” صفة لساعة غضبٍ كوني، تساقط فيها الجبابرة، واختنقت فيها الأصوات المتغطرسة.
✦ الساعة البيولوجية: توقيتك الذي لا تراه
بعيدًا عن ساعات اليد، يحمل كل إنسان في داخله ساعة معقدة ودقيقة تُعرف بالـ “Circadian Clock” أو الساعة اليومية.
هي التي تنظّم نومك، هرموناتك، طاقتك، وقدرتك على التعلّم والتفاعل.
القرآن أشار إليها حين قال:
“وجعلنا الليل لباسًا، وجعلنا النهار معاشًا” (النبأ 10-11)
إنها إشارات دقيقة لحركة الإنسان في توازن مع الكون.
وعلم اليوم يؤكد أن اضطراب هذه الساعة الداخلية يُسبب الاكتئاب، السمنة، ضعف المناعة، وفوضى الذهن.
✦ الساعات الفلكية: كواكب تتكلم عبر عقارب خفيّة
الفلكيون والروحيون منذ آلاف السنين، قسّموا اليوم إلى ساعات، لكل ساعة كوكبٌ حاكم:
• الزهرة: للجمال والمودة
• المريخ: للصدام والطاقة
• المشتري: للبركة والتوسّع
• زحل: للعرقلة والاختبار
ولم تكن هذه مجرد خرافات، بل تراث علمي/رمزي ضارب في العمق، استُخدم في تحديد أوقات البناء، الزواج، المعارك، وحتى الولادة.
✦ ساعة الاستجابة: ومضة الدعاء التي لا تُخطئ السماء
في الحديث النبوي:
“في يوم الجمعة ساعة، لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه”
والعلماء اختلفوا في تحديدها، لكنهم اتفقوا أنها ساعة برزخية بين الدعاء والقَدر، تتفتّح فيها أبواب الملكوت، ويهتزّ فيها الحجاب بين الأرض والسماء.
✦ الساعة النفسية: عندما يدق القلب لا العقل
كل إنسان يمر في حياته بلحظة يسمّيها لا شعوريًا: هذه هي ساعتي.
هي اللحظة التي:
• يقرّر فيها أن يبدأ من جديد
• يواجه نفسه أخيرًا
• يُحب فجأة دون تفسير
• يقول “كفى” رغم كل الخسائر
هذه الساعة لا توجد على الجدار… بل داخل الصدر، عند مفترق الروح والقدر.
✦ الساعة السوداء: السقوط العظيم في زمن الصمت
سياسيًا وتاريخيًا، تُستخدم عبارة “الساعة السوداء” للدلالة على:
• انهيار نظام
• هزيمة نكراء
• اغتيال أمل
إنها الساعة التي لا يعود بعدها شيء كما كان، وتصبح فيها الدموع هي لغة العقل.
يقول الله تعالى:
“وأُحيط بثمره فأصبح يُقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهي خاويةٌ على عروشها…” (الكهف 42)
ليست كل الخسارات مادية… بعض الخسارات تحدث في “ساعة واحدة”، ويُبنى عليها عمرٌ كامل من الحزن.
✦ الساعة الرقمية والذكية: حين يراقبك الزمن
في عصرنا، لم تعد الساعة تُقرأ… بل تقرأنا.
الساعات الذكية ترصد نبضك، نومك، حركتك، وحتى توترك.
بات الزمن أداة لتحليل الجسد، وتحليل الشخصية، وتحليل السوق.
وفي هذا أيضًا تساؤل: هل أصبحنا عبيدًا للوقت، بدل أن نكون سادته؟
✦ الساعة الرمزية: حين يتكلم التاريخ بلغة دقيقة
• ساعة الحسين عليه السلام في كربلاء، كانت ساعة الفداء.
• ساعة النبي ﷺ في الغار، كانت ساعة اليقين.
• ساعة سقوط بغداد، كانت ساعة الذهول.
• ساعة الثورة، هي دائمًا: ساعة بلا تحذير.
كلها “ساعات” لا تُقاس بالدقيقة… بل تُقاس بالحقيقة.
✦ الخاتمة: أي ساعة نعيشها الآن؟
قد نكون في ساعة رمادية… لا هي ساعة فجر، ولا ساعة ليل.
لكن التاريخ يُخبرنا أن اللحظات الكبرى لا تُعلن عن نفسها.
وأن السعد لا يُطرق ببابنا إن لم نكن نحن الساعين إليه.
فيا ليت شعري:
هل نعيش الآن “ساعة استجابة” تُغيّر ما في نفوسنا؟
أم “ساعة نحس” نغفل عنها كما غفل مَن قبلنا؟
أم نحن في أولى دقات “ساعة الصفر”… قبل انفجار التغيير؟
الزمن وحده يعلم،
لكن المؤمنين، والمفكرين، والعشّاق،
هم وحدهم الذين يسمعون صوت العقرب قبل أن يتحرك.