هل مات الضمير؟
هل أُطفئت شعلة الإيمان؟
هل غفونا في ترفنا حتى نسينا من يتألم خلف الجدران؟
في غزة، يُولد الطفل على صوت القصف، ويكبر على رائحة الجوع.
وفي العراق، قُبر نصف مليون طفل قبل أن يعرفوا أسماءهم.
وفي الموصل، في يوم من أيام التاريخ السوداء، أكل الناس الكلاب من شدة الجوع.
وفي فيينا، نشأ “الكرواسان” من خوف وجوع وحصار…
لكن وحدها غزة، جاعت أمام كاميرات العالم، ولم يتحرك شيء.
فيينا: رغيف من الحصار
في عام 1683، حوصرت فيينا.
كان الناس جوعى، خائفين.
اكتشف أحد الخبازين نفقًا حفره العثمانيون، فأبلغ الجيش وأنقذ المدينة.
فكافأه الحاكم بأن يصنع رغيفًا جديدًا، على شكل “هلال” – شعار العثمانيين.
وهكذا وُلد الكرواسان، رمز النصر… لكنه وُلد من رماد الجوع.
اليوم، يُقدَّم الكرواسان على موائد الأثرياء.
لكن في غزة، لا هلال ولا رغيف… ولا حتى نار.
بغداد: شهادة من قلب المجزرة الصامتة
أما العراق، فقد عشت فيه، وكنت شاهد عيان لا ينسى.
شهدت سنوات الحصار، حين مات الأطفال واحدًا تلو الآخر بصمت.
كنت هناك حين كانت الصيدليات فارغة، والمستشفيات مظلمة،
وحليب الأطفال عملة نادرة لا تُشترى بالمال بل بالمذلة.
كنت أرى بعيني أمهاتٍ يحملن أطفالًا نحيلين كالأغصان،
تنتظرن جواب الطبيب… فيأتي الجواب صامتًا:
“مات… لأن الحليب لم يصل.”
نعم، كنتُ شاهدًا حين دفنّا نصف مليون طفل عراقي،
لا لأن الحرب قتلتهم، بل لأن الجوع فعل.
كان الموت يأتيهم على هيئة نحول، وسعال، ودموع أمهات
لم يعد لديهن حتى الصوت.
غزة: الجوع أمامنا… ونحن خلف الشاشات
اليوم، غزة تعيش المشهد ذاته.
طفل يبحث في القمامة عن لقمة،
وأمّ تغلي ماءً في قدر فارغ لتخدع أبناءها أنه “يطبخ”،
وأبٌ يخرج ولا يعود، لأنه لم يعد يتحمل أن يرى أبناءه جياعًا.
العالم كله يرى… لكن لا أحد يتحرك.
الحديث النبوي… وصمة على من عرف وسكت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم»
(رواه الطبراني)
فكيف يكون الإيمان كاملًا، ونحن نعلم بجوع غزة وبغداد واليمن والسودان، ونصمت؟
هل أهل غزة ليسوا جيرانًا لنا؟
بل هم أقرب من الجار… هم في القلب، في الدين، في الدم.
فمن نام شبعان، وعلم أن في فلسطين جائعين بلا خبز، وأيتامًا بلا دواء،
ولم يُحرّك ساكنًا… فليراجع إيمانه.
والجوع له خاتمة : للجوع حساب… والدهر يدور
الجوع ليس قدرًا سماويًا، بل اختبار للضمير البشري.
وليس مأساة غزة وبغداد مجرد أرقام، بل مرايا تنعكس على وجوه الجميع.
والمصيبة ليست فقط في من جاع… بل في من جعل من الجوع سياسةً، ومن الضيف خصمًا، ومن الاستضافة صكَّ إذلال.
تاريخ الجوع لا يُنسى…
من فيينا المحاصَرة التي أنجبت كرواسًا من خوف،
إلى بغداد التي دفنت أطفالها بصمت،
إلى غزة التي تتنفس عبر كسرات الخبز إن وجدت.
وفي زوايا العالم، قد يجلس ضيف…
قُطعت عنه الأبواب، وخُتم على رزقه،
لا لذنب ارتكبه، بل لأنه ذكرى حيّة لتقصيرٍ ما،
وربما كي يُختبر صبره… أو تُكشف نوايا من حوله.
وهنا، وسط هذا المشهد الصاخب بالصمت،
يُقال همسًا، لمن يملك أذنين وضميرًا وذكاءً نادرًا:
“تدوّن ذاكرة الأبواب ما لا يُقال… فبعض الضيوف جاعوا، لا لأن المائدة غابت، بل لأن الكرم تظاهر بالنسيان.”