ثارات الشهداء – علي حسن إبراهيم

منذ أكثر من ثلاثة وسبعين يوميًا، وهذا العالم القاسي المريض يستيقظ على مشاهد القتل والتجويع والمجازر والدمار، بحق أهلنا الكرام المرابطين في غزة، وفي كل يوم نقرأ منشورات من بقي من أهلنا هناك على قيد الحياة، بأن هذه الليلة كانت الأصعب منذ بداية الحرب، وما بين ليالي الموت، وأيامه، يمضي الفلسطينيون في غزة هذه الأيام وهم يتقلبون ما بين موت زؤام من طائرات الاحتلال وجنده وآلياته، وموت التجويع البطيء من أخٍ قريب أغلق أبوابه، وأوصد آذانه عن هموم مئات آلاف الفلسطينيين، وفي كل يوم من هذه الأيام تتلاحق ثارات الشهداء، ولكن من يأخذ بالثأر..
يستمر الاحتلال باختلاق الأكاذيب الواحدة تلو الأخرى، ويمضي في قتل المدنيين العزل من دون أي حسيبٍ أو رقيب، والعالم من خلفه يمده بمددٍ لا ينتهي، من أداوت القتل والتغول والإرهاب، فتصيب قذائفه المأفونة، وحممه اللاهبة أطفالًا بعمر الزهور، وفتيانًا كالورد بل أحلى، أطفال عزّل إلا من براءة وبعض خوف، وطفولة استُلبت منهم على حين غرة، وسط صمت العالم، وخنوع القريب، وتواطؤ الجار، ومع كل صورة لعوائل كاملة ارتقت في القصف الوحشي، وقد احتضنوا بعضهم بعضًا، في مشاهد تحرق الأكباد، وتلهب الفؤاد، يُكتب سفرًا جديدًا من معاناة الشعب الفلسطيني، وفصل آخر من أمة لم تعرف في سنواتها الماضية إلا الموت.
لقد قال الشاعر الفلسطيني يصف حال هذا الشعب مع الموت:
أَرَى الموْتَ لا يَرْضَى سِوانا فَرِيْسَةً
كَأَنَّا لَعَمْرِي أَهْلُهُ وَقَبَائِلُهْ..
لَنَا يَنْسجُ الأَكْفَانَ في كُلِّ لَيْلَةٍ
لِخَمْسِينَ عَامَاً مَا تَكِلُّ مَغَازِلُهْ..
لقد بكيت كما الكثيرين، من صور الشهداء الأطفال، عن روح الروح وجدها الصابر الذي لثمها ميتة كما كان يلثمها حية، عن أطفالٍ صغار غضين يرتجفون خوفًا من بردٍ وانفجاراتٍ مهولة، وكم بكينا دمعًا سحساحًا نديًا على ذلك الطفل الجميل الذي انتظر دوره ليأخذ الطعام وقتًا طويلًا، وعندما وصل كانت الأوعية قد فرغت، فأعطاه لداته بعض الطعام فعاد فرحًا إلى والدته، وغيرها من المشاهد التي تحفر في الوجدان وفي الذاكرة.

وعلى الرغم من تلك الصور القاتمة، إلا أن الجنائز التي تحدث في غزة، وأعداد الضحايا التي لا تفتأ في تصاعدٍ مرير، ليست إلا وعودًا بالثأر ولو بعد حين، فثارات لشهداء آتية لا محالة، فلن يبرد الدم ويستكين إلا برد بعض الألم الذي نتجرعه لنسقيه سمًا زعافا للقتلة، وهو ثأر تعيه المقاومة، وتترصد به العدو، في كل زقاقٍ وشارع، في غزة وخانيونس والشجاعية وبيت لاهيا وغيرها، فكل طفلٍ يضحي قذيفة، وكل نقطة دم، تتحول إلى حممٍ يتجرعها العدو صاغرًا، مضطرًا، فالثأر لا يموت أبدًا، وها هو الاجتياح البري للقطاع قد استحال للعدو فخًا كبيرًان وكوة من جحيم، بهمم الأبطال وسواعد الرجال…

وإننا هنا متمسكون بالثأر، بقلوبٍ لا تفتأ عن الدعاء، وعقولٍ لا تكل عن التفكير، والكتابة والعطاء والترصد، والدعم ونشر الحق والحقيقة، وغيرها من مجالات الدعم الكثيرة والمتنوعة، وإن هذه المعركة الحالية مفتاح لمعارك كثيرة قادمة، فمن يقعد في هذه المعركة ويركن للدعة والقعود، لن يناله من خيرها وبركتها وما تحققه أي شيء، أما من شمر عن سواعد الجدّ وأزال عنه الحزن واليأس والألم، فقد فاز فوزًا كبيرًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى