- لم أكلّم واحداً من أصحابي هناك إلا كان الوجعُ أول حديثه، ثم تراه يتصبّر متعزّياً، فكنتُ أظلّ صامتاً أمام جلالة وجعه، إذ لا أجد كلماتي تتسع لكل هذا اليأس الحزين الذي كتّفه وجعله يتكفّف الناس طلباً لإطعام أهله، وهو العزيز الكريم.
- وقد انتبه أحدهم مرّة عندما قلت له: ألم تعْلم مقالة الله لعباده: “إني معكما أسمع وأرى” فالله يسمع ويرى ما يحلّ بنا، وأنّه سيدلنا على ما يخرجنا من إدراك العدوّ لنا: “إن معي ربي سيهدين” ولابد أن الله الذي معنا سيهدينا ويدلنا ويرشدنا، وأخبرته كيف خرج رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه طريداً مهاجراً يبحث عنه قومه ليقتلوه فيقول لصاحبه وهو مختبئ عن عيونهم في الغار: ” لا تحزن إن الله معنا”.
- قلت له: لا يمكن لأحدنا أن يشعر بالمعية الإلهية وهو يعيش كل هذا القلق، وهو الذي يفتح أبواب الظنون على قلبه المكسور، ويكابد هذه الهموم والغموم مما فات ومما سيأتي، فهذا مرضٌ نفسيّ فتّاك سيدمّر أرواحنا.
- إنّ أكثر ما يحتاجه الناس الآن يا أخي هو السكينة، وطمأنينة القلب، وسلامة الروح، إنّهم يريدون الابتسامة الصابرة، والثقة المطلقة بالله، يريدون كلمة تقطع بقيّة رجائهم بالناس الذين خذلوهم، ويتجرّد رجاؤهم لله رب العالمين.
- إنهم بحاجة إلى فكرة نفسيّة مريحة تتسلل إلى قلوبهم المنفطرة المكدودة التي كاد أن يصيبها العمى، فلا يكادون يرون منها بصيص أمل بين كل هذا الركام العالي المظلم من الموت والدم والدمار والخذلان والتيه والضياع.
- إن الناس بحاجة لمن ينقلهم إلى عتبة الشعور بمعيّة الربّ الحامي الحافظ القويّ الغنيّ الكريم الجبّار القهّار، فلا يبالون بإدراك العدوّ لهم، ولا يحزنون على فقدٍ، ولا يبكون على حالٍ، ولا يجتمعون على مصيبة، ولا يأسون على فَوتٍ، ويكفيهم ما أصابهم من عذاب البدن وعذاب النفس.
- إن ربهم معهم حقاً “وهو معكم أينما كنتم” لكنهم يحتاجون إلى الإيمان بذلك، ويحتاجون إلى من يهديهم إلى هذا الإيمان، ويعلمهم كيف يشعرون به.
- معيّة الله هي سبيلنا للخلاص، هي تدريب عالٍ للنفس في هذه الظروف القاسية، وهي الوحيدة القادرة على ترميم النفوس المكسورة بعد كل هذا العذاب.
- معية الله هي شعورك بقدرته المحيطة فيمنحك ذلك القدرة على فعل كل ما تظنّ أنك عاجز عن بلوغه، ويمنحك الشعور بأنّك أقوى وأقدر على التحكم في حالك ومصيرك من خلال الصبر على حكم الله وقضائه، وأن الله هو من يدبّر أمره لعباده المتقين المحسنين الصابرين، وتثبت على هذا المعنى، وتُربي شعورك به، وتنميه.
- وقد علِمنا أن بعضهم تجرّد في هذا المعنى حتى شعر بلذّة المعية، وجنى بعض ثمرتها، وأدرك معنى قوله تعالى: ” فاصبر لحكم ربّك فإنك بأعيننا” فكان لا يبادر إلى شيء إلا سهّله الله له، وأناله إياه على قدر.