(هي عصاي) – علي حسن إبراهيم

ستظل مشاهده الأخيرة أبلغ من كل وصف، وأسمى من كل كلمة، تكثفت في هذه اللحظات التي شاهدناها قبل ارتقائه، كل ميراث أمتنا المترع بالتضحيات، تجد فيها صورة لكل من قرأنا عنهم، عن كل بطلٍ في هذا التاريخ الممتدّ، عن العظماء الذين قاتلوا حتى ارتقوا، وجاهدوا في سبيل الله، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، لقد خلت عندما رأيت هذه اللحظات بأنني أرى وهو في لثامه صاحب النقب، ذلك الذي لم يعرفه الناس، ولم ينتظر لقاء صنيعه شكرًا ولا منة، وتجد في تلك الجلسة وهو مضرج عُمير بن الحمام، وفي جسده النازف جسد جعفر الطيار، وترى في شهادته المتألقة الحسين وآله، وترى في ثباته وصموده آل الزبير، وفي نظراته قبسٌ من نظرات عمر رضي الله عنهم جميعًا، وعشرات غيرهم من الأفذاذ.
لقد حملت شهادة القائد أبو إبراهيم يحيى السنوار معاني عظيمة، ورمزية استثنائية، فمن مشاهده الأخيرة، إلى اشتباكه مع العدو، والأخبار عن جولاته في العقد القتالية، يرفع الهمم، ويوجه المجاهدين، ويشارك في صدّ العدوان، تؤكد جميعها على صورة أشبه بالأسطورة، وعلى أنموذجٍ في التاريخ المعاصر يفاخر أهل القرون الأولى، ولم تقف تلك الرمزيات عنده صوره شهيدًا فقط، بل امتد إلى كل فعلٍ مما قام به، هو وإخوانه منذ انطلاق الطوفان وحتى اليوم.

عصا السنوار، لنا فيها مآرب أخرى
سألت شات جي بي تي، في محاولة متحذلقة عن “عصا السنوار”، فقال بأنها ترمز إلى “الزعامة والقوة”، وعلى الرغم من أن عصاه التي ألقاها على المسيرة لم تحرك -حتى الآن- ما ردك في الأمة من نكوصٍ إلا أنها استطاعت أن تضرب مثالًا جديدًا في سلسلة الرمزيات الفلسطينية، فمن مفتاح حق العودة، وغصن الزيتون، والزعتر وتراب البلاد، وصولًا إلى كرسي الياسين وكوفية عرفات، وأخيرًا شعار هنية (لن نعترف بإسرائيل)، وعصا السنوار، تجسد ما حمله هؤلاء القادة، وما شهدته القضية الفلسطينية طيلة أكثر من سبعين عامًا الماضية، من آلامٍ وآمالٍ ومأس، وما سطره هذا الشعب من مقاومة لم ولن تتوقف.
كان لافتًا تفاعل الناس مع مشهدية العصا، ولحظات الشهادة، فهي أول مرة نشاهد قائدًا يرتقي مشتبكًا، وكان سلفه من القادة يستشهدون عبر الاغتيال الجبان من العدو، وإلى جانب ما تركته هذه المشهدية الجليلة في الوجدان، وأثرها العميق في كل ذي لبّ ، ولكنني أقصد تلك الاشتقاقات اللطيفة من معاني وأمثال لها اتصال مباشرة بشخص السنوار، فأصبح الوصف “فلانٌ سنوار” أي أنه شجاعٌ مقدام لا يرهب عدوه، أو ما اتصل بفعله الأخير، إذ انتشر في وسائل التواصل مثلٌ جديد “رميت بعصا السنوار”، في إشارة إلى قيام المرء بوسعه، وأنه أدى ما عليه، ولم يبق معه إلا عصاه فقاوم بها.
لا أعرف لم عقدت مقارنة بين عصا سيدنا موسى عليه السلام، وعصا السنوار، فكما قسمت الأولى اليمّ، الذي غرق فيه فرعون، ستكون الثانية القاسمة لهذا العدو بعد جبروته وتعجرفه، ولا أدري لم تلمس في شخصية السنوار شيءً من شخصية موسى عليه السلام، من شدته في الحق، وسرعته في بيانه. كان لموسى عليه السلام في عصاه مآرب أخرى، وكانت للسنوار رسالة لنا بأنه استنفذ جهده، وأدى واجبه، والبقية على جماهير القاعدين المتفرجين على المذبحة المستعرة، لقد ترك بموته صامتًا وحيدًا دروسًا جليلة، عن قوة الإرادة، وصلابة الموقف، والشدة في الحق، فلا يهاب المؤمن من يقف في وجهه، حتى لو حمل في يده العصا فقط، إن كانت الروح مشبعة بالإيمان، والقلب لا يهاب الموت، ولا يعبأ بمن يواجهه.

سلسلة ذهبية من الأبطال
يظن العدو أنه بالقضاء على القادة وإبادة الآمنين، سيقضي على روح المواجهة في هذه الشعوب، المشكلة أن ذاكرته قصيرة جدًا، وأننا من أمةٍ تألف الموت، وتتعايش مع التضحيات، فقلما تجد أمةً في التاريخ، تفيض بعطائها وتزخر بشهدائها كهذه الأمة، فلا تكاد تمضي الأعوام إلا وتقدم خيرة أبنائها في سبيل تحررها، وهي مكبلة مكلومة، يعبد هؤلاء بدمائهم طريق الحق، فتهزم أسواط الجلاوزة، يقارعون الطغاة ويبارزونهم من مسافة صفر، رجال كُتبوا بمداد العزة في سجل التاريخ الذهبيّ.
كان استشهاد المجاهد القائد يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة، شعلة تأمل واستذكار في تاريخ هذه الأمة العظيمة التي لم تجف أنهار تضحياتها يومًا ما، وكان استشهاده ملحمةً أخرى تضاف إلى سير هؤلاء العظماء؛ نال الشهادة التي تمناها، فلم يكن يريد أن يموت كما يموت الناس، بل في مواجهة عدوه، بجسده النحيل، وقلبه المتوقد، وعيناه التي تُضمر أكثر مما تُنبئ.

لقد مضى السنوار في دربه، الذي ارتحل إليه مشتاقًا إلى صحبه وخلانه، وكأن لسان حاله يقول، لو كان لي ألف نفسٍ لما ترددت فيما قمت به وسعيت لأجله، ذلك القائد الفذّ الذي حمل فلسطين في قلبه، غير عابئ بتهديدات المحتل، وحرّك ما ركد في واقع هذه الأمة، وسيظل السنوار ماثلًا في قلب كل عربيّ ومسلم، بثباته ومواقفه وشهادته. سيظل أصحاب البلاد ينسلون من كل حدبٍ وصوب، يولدون من رحم هذه الأرض المباركة، وينبتون فيها كما ينتب الزيتون والزعتر، يقاتلون الاحتلال، ويطلقون الطوفان تلو الآخر، فهم من تلك الفئة المؤمنة، التي يؤسس فيها الياسين المقعد أعظم حركات التحرر، والتي يشق السنوار وهو مثخن بالجراح بحور الركون والدعة بعصاه، والعدو لا يعلم أنه أمام ألف ألف سنوارٍ قادم، فهذه البلاد لهم.
يا صاحب الأرض اعتصم فالأرض عرض المتقين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى