- قد يرحل الأحبّة في هذه الحرب فنبكيهم، ثم نتصبّر على فراقهم ونتعزّى بهذا النسيان، ولكن ثمّة آلاماً لا تنفكّ عنّا، وهي تلك القروح والإصابات التي تنحفر في أبداننا، وما يبقى من أثر العاهة والجراحة فينا وفيمن حولنا.
- وبعض هذه الآثار مما يظل علامةً ظاهرةً أو وجعاً مستديماً من أثر القتال في المعركة وأخطاء الإعداد والتدريب، وبعضه مما أصابنا وأصاب أهلنا من العامة والمدنيين في القصف والإغارة والرجوم العمياء.
- وفي مثل هذه الأحوال فإن قطرة الدماء وآثار الجراحة في هذا البلاء مما يزيد من رصيد المؤمن، فتراه يتعاهدُ دماءه التي تنزف وإصابته التي وقعت عليه، لأنّه يعلم أنها تقتضي استدعاء حبّ الله له، ثمّ تراه يحمد الله على أي عاهة أصابته من جراحة القتال، ويتحسّّس آثار جرحه المحفور على أعضائه أو أطرافه أو جلده أو جوفه، ويتَناجَى معها كأنّها ناطقة بالحبّ الذي يشفع لصاحبه ويشهد له في ميعاده عند ربّه.
- إن قطرةً من دمك سواء سالت في لحظة الارتقاء أو الإصابة ليس شيءٌ أحبَّ إلى الله منها سوى قطرة من دموع بكت من خشية الله، وإن أثراً في سبيل الله ليس أثرٌ أحبَّ إلى الله منه سوى أثر في فريضة من فرائض الله، وشاهدُ ذلك ما ورد في الحديث الحسن عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة دم يُهَراقُ في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى”. رواه الترمذي
- والأثر في سبيل الله في الحديث هو الجراح التي تتركه المعارك على جسدك، وغبار العناء الذي يغطي وجهك وساعديك وقدميك، وآثار خطاك التي تقتحم بها على العدوّ؛ وهذا الأثر الذي فيك يعني أنّك مشروع شهيد سعيد، وعليك ختم الشهداء السعداء وفيك علامتهم وأمارتهم، وأنّك تستحق مِثلَ جزائهم ومكانتهم، وتُعرَف بذلك بين أهل الجنّة، كما في حديث معاذ بن جبل الذي رواه أبو داود (ومَن جُرح به جراحٌ في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء)، وتُفصّل رواية أخرى للحديث أعراض هذه الجراحة ( مَن خَرج به خُراج في سبيل الله فإن عليه…) والخُراج: ما يخرج من البدن من آثار الشجّة أو الالتهاب كسِلْعة أو صديد أو دُمّل أو ورم.
- ومن ذلك النكبة: ففي حديث مسلم (ما مِن مرضٍ أو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفّارةً لذنوبه حتى الشوكة يُشاكها أو النكبةُ يُنكبُها)؛ وهذه النكبة المُكفِّرة للخطايا شاملةٌ لكل حادثة من الحوادث الصغيرة والكبيرة والمحن والمصائب والنوازل والأذى، من شلل يصيب طرفاً منه أو ضرراً في عينه أو عثرة قدمٍ أثناء المناورة أو الانحياز أو النزوح لحماية الأهل والمدنيين، أو جراحة من سقوط من مركبته أو دراجته، ومِن حملِ سلاح ثقيل، أو حفر نفقٍ، ومن إصابة حجرٍ، ومن أنقاض هدمٍ، ومن شظايا قصفٍ أو زحفٍ أو إنقاذ … وهي شاملة لكل من يقاتل ومن لا يقاتل من المؤمنين الثابتين معهم على طريق ذات الشوكة.
- وقد أخبرنا رسولُ الله صلوات ربي وسلامه عليه أن هذه النكبات المتعددة والمتتابعة يجزينا الله بأعلى قيمة فيها، وبأكثر أوقاتها غزارة في ساعة سيل الدم ووقوع الأذى وحدوث النكبة، وكأنها ما تزال غضّة جديدةً كما نفهم من حديث معاذ بن جبل أيضاً: (ومن جُرح جرحاً في سبيل الله أو نُكِب نَكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك).
- لا نجمّل الجراح هنا، فليس في الجراح زخرفة ولا جمال، وإنما يجمّلها الرضا، ويضمّدها الصبر، ويخفف آلامها الاحتساب، فإذا وجدتَ أحداً ممن أصابته نكبة في تلك الحرب، ورأيتَه صابراً محتسباً راضياً، فاعلَم أنّه محبوبٌ موفّقٌ، وأن الله أرشده إليه، ودلّه على سبيله، ووطّأ له طريقاً إلى الجنّة، فالتمِسْ منه دعوة صالحةً، ولا تدعْه دون أن تقضي له حاجتَه.