كنتُ أمازح صديقي الثابت المهدود الذي تعاني بناته من سوء التغذية بمزحات ثقيلة، فهي الوحيدة التي تجعل عضلات وجهه الشاحب المسودّ ترتفع قليلا لتضحك، فأقول له: إن أجسادنا تصلح أن تكون سماداً لهذه الأرض التي احتملتنا دهراً، ولن يكون موتنا هباءً يا صديقي، فهذه الأرض تحمل جيناتنا النقيّة، وستثأرُ بل حبّة رملٍ امتصّت رحيقَنا اليومَ!
كتب لي مُستصرِخاً: يا مَن كنتَ صديقي زَعْماً! ماذا تفعل أيها البائس اللئيم هناك، ألا ترى أنّ هذا الجوع يتلف أبداننا، ويكسر ظهورنا، ويفكك كل وظيفة فينا!
إننا نمضي اليوم كله على أقدامنا بحثاً عن لقمة، ولا ندري أننا نستنزف كل الطاقة الباقية لدينا، ولا تتبقّى لنا طاقة لأي شيء آخر.
نعلمُ اليوم أن كثيرين منّا لم يعُد يشعر بالجوع أو بالعطش، ليس لأنه يتحمّل ذلك أو يجد ما يأكله في السرّ، بل لأن معدته قد ضمرت حتى فقدت أعصابُها الإحساسَ بالجوع والعطش، فيصيبهم الجفاف، ويسقطون، وهم يبتسمون!
يمكنك أن ترى جلودنا التي انكمشت إلى بعضها، وشحبت، ولو فحصتَها أكثر فستجدها قد تشقّقت من اليبوسة والجفاف، ولا تحاول أن تلمسها لئلا تتهرَّى بيديك.
وإذا كنتَ طبيباً متدرّباً في التشريح فيمكنك أن ترى جثث من أهلكه الجوع منّا، ولو شققت مرِيء أحدِهم فستجد فيه الفطريات التي أكلتْ مريئه، فجعلت أي لقمة صغيرة يبتلعها كأنها الأشواك المدبّبة.
لم نعُد نشتهي الطعام، ولم يعُد للشم وظيفةً فليس حولنا وردة ولا خضرة ولا رائحة شواء، ولا دخان نار رطبة، بل إننا نشدّ على أنوفنا بكل لثام حتى لا نشم رائحة الموت الساقط علينا كل ساعة.
المرض يجتاح أطفالنا، ويسمّم أجسامهم الصغيرة، ولم ينجُ أحدٌ من الإسهال أو الاستسقاء أو الطفوح الجلديّة.
وأمّأ حكاية بناتنا مع الجوع ومضاعفاته فتلك حكاية هائلة نستحي أن نقولها.
كنا نتعزّى بالكثير من الصبر والثبات والتكافل، لكننا اليوم نهلك تماماً، ونتساقط وحدنا في الطرقات، ولا ندري كيف تضربنا الغيبوبة، أو متى تسكت قلوبُ كبارنا فجأة!
أيها الناس! لم يكن فينا خمولٌ ولا كسلٌ يوماً، لكن ما تبقى من عضلاتنا لا يكاد يقوم ولا يتجمّع.
نحن لم نعُد نشعر بالوقت من حولنا، ولم نعد نشعر كثيراً بمن حولنا، فهذا الجوع يقتل مشاعرنا، ويحبط قدرتنا على التواصل والتفاعل، ويرمينا في الكآبة.
أسهل المشاعر اليوم عندنا هو أن تغضب بلا سبب تعرفه، لأن ألف سبب لا تعرفه يدفعك إلى الغضب دفعاً.