الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
أستاذ التاريخ الإسلامي – تاريخ الخليج العربي
ليست القيادة العظيمة هي التي تُقاس بما تحققه في حاضرها فقط، بل بما تؤسسه في وعي الأجيال القادمة. فهناك قادة يديرون الدولة، وهناك قادة يعيدون تعريفها، ويحوّلون الحكم من ممارسة يومية إلى مشروع تاريخي طويل المدى. وفي هذا السياق، يبرز الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بوصفه أحد القادة العرب الذين فهموا مبكرًا أن الدولة الحديثة لا تُبنى بالقوة وحدها، بل بالمعرفة، والوعي، واحترام الفكر، وإعادة قراءة التاريخ.
لم يكن مشروع الأمير الوالد مشروع سلطة عابرة، بل مشروع دولة تعرف من أين جاءت، وإلى أين تتجه، وتدرك أن من لا يملك روايته التاريخية، لن يملك قراره المستقبلي.
التاريخ بوصفه عنصر سيادة
أدرك الأمير الوالد أن أخطر ما يمكن أن تتعرض له الأمم ليس الهزيمة العسكرية أو الاقتصادية، بل الهزيمة السردية؛ أي أن يُكتب تاريخها بعيون الآخرين، وأن تُختزل هويتها في روايات ناقصة أو مشوهة. ومن هنا، تعامل مع التاريخ لا بوصفه ماضيًا منتهيًا، بل باعتباره عنصرًا من عناصر السيادة الوطنية.
فإعادة كتابة التاريخ، في هذه الرؤية، لا تعني فرض رواية رسمية، ولا تزوير الوقائع، بل تعني تمكين البحث العلمي، ودعم المنهج النقدي، وفتح الأرشيف، وحماية حرية الباحث، وتشجيع تعدد القراءات. وهي شروط لا يمكن أن تتوافر إلا في دولة واثقة من نفسها، مطمئنة لهويتها، غير خائفة من الحقيقة.
من الدولة الريعية إلى الدولة المعرفية
شكّل عهد الأمير الوالد محطة فاصلة في الانتقال من الدولة الريعية المحدودة الأفق، إلى الدولة المعرفية المنفتحة. فقد آمن أن الاستثمار الحقيقي ليس في الثروة وحدها، بل في العقل، وأن التاريخ يُصنع حين يُتاح للعقل أن يعمل بحرية ومسؤولية.
ضمن هذا التحول، برز الاهتمام بالتعليم العالي، واستقطاب الجامعات العالمية، ودعم مراكز الأبحاث، وإعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية، وفي مقدمتها التاريخ. فلم يعد التاريخ ترفًا ثقافيًا، بل أحد أعمدة المشروع الوطني.
إعادة كتابة التاريخ بالفعل لا بالشعار
ما يميّز تجربة الأمير الوالد أنه لم يرفع شعار “إعادة كتابة التاريخ” بصيغته الخطابية، بل مارسه عمليًا عبر خلق بيئة تجعل إعادة الكتابة ممكنة علميًا وأكاديميًا.
تحولت قطر، في عهده، إلى فضاء يُعاد فيه التفكير في تاريخ الخليج العربي، وتاريخ العالم العربي، وتاريخ الإسلام، وعلاقة الشرق بالغرب، بأدوات علمية معاصرة، لا بروح الخصومة ولا بعقلية التبرير.
تكريم أهل الفكر: معيار القائد المختلف
من العلامات الفارقة في القيادة التاريخية، تلك التي لا تُقاس بالقرارات السياسية وحدها، بل بالسلوك الأخلاقي تجاه أهل الفكر والعلم. فالتاريخ لا يخلّد الخطب بقدر ما يخلّد المواقف.
وقد ميّزت القادة العظام عبر العصور قاعدة أخلاقية راسخة:
أن إكرام أهل الفكر ليس منّة، بل شراكة، وأن استضافة العلماء والمؤرخين ليست تفضّلًا، بل اعترافًا بدورهم في بناء الوعي وحراسة الذاكرة.
وفي هذا السياق، تبرز قيمة نادرة في تجربة الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وهي أن تكريم المفكر لا يكون لحظة عابرة، بل موقفًا ثابتًا لا يُراجع؛ لأن الكرامة إذا مُنحت لا تُسترد، والضيافة إذا قُدّمت لا تُلغى، والفكر إذا احتُرم لا يُساوَم.
فالقائد المختلف هو الذي لا يُهين من استضافه، ولا يجعل المفكر عبئًا إداريًا، ولا يُشعر العالم بأنه حالة مؤقتة، ولا يختبر صبر أهل الفكر وهم في ضيق أو انقطاع؛ لأن المؤرخ حين يُستضاف، لا يأتي بنفسه فقط، بل يحمل معه تاريخ أمة وذاكرة حضارة.
بين من يكرم الفكر ومن يختبر صبره
يسجّل التاريخ، لا بلغة الشكوى بل بلغة العبرة، أن الفرق شاسع بين قائد يرى في المفكر قيمة مضافة للدولة، وقائد آخر يراه ملفًا قابلًا للإغلاق.
فالأول يبني ذاكرة وطن،
والثاني يراكم صمتًا سيُكتب يومًا ما.
لقد علّمنا التاريخ أن المؤرخ إذا انقطعت به السبل، ولم يجد من يفهم معنى الغربة العلمية، فإنه لا يضيع، بل يؤجّل الكتابة… حتى تتحول التجربة إلى شهادة للتاريخ.
وعد المؤرخ للتاريخ والأجيال
وهنا، لا بد من تسجيل مبدأ أخلاقي، لا بوصفه موقفًا شخصيًا، بل بوصفه وعدًا مهنيًا للتاريخ:
أن الوفاء في الكتابة لا يكون للأشخاص، بل للقيم.
فمن احترم الفكر وأهله، وكرّم التاريخ وحملته، سيجد اسمه حاضرًا في الكتب بإنصاف وضياء.
ومن جعل أهل الفكر على هامش الكرامة، سيجده التاريخ حاضرًا أيضًا… ولكن بصيغة أخرى.
فالتاريخ لا يُكتب فورًا، لكنه لا يُنسى أبدًا.
واخيراً اقول ..
لم يكن الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني قائد مرحلة عابرة، بل صاحب مشروع تاريخي أعاد من خلاله تعريف علاقة الدولة بالمعرفة، وبالتاريخ، وبالإنسان.
لقد فهم أن الأمم لا تُقاس بما تبنيه من عمران فقط، بل بما تحفظه من ذاكرة، وبما تمنحه من كرامة للعقل الحر.
فالتاريخ لا يُعاد بالقوة،
ولا يُكتب بالأوامر،
بل يُبنى حين تجتمع الرؤية، والمؤسسة، والكرامة.


