غزة ميراث الصمود والدم – علي حسن إبراهيم



تحمل مدن الأرض ميراثًا من التاريخ والذاكرة الحيّة، ترتبط بما مرت فيه هذه المدينة من أحداث وعصور، وبما شهدته من أهوال، مرورًا بما تحتويه من أوابد حضارية ومعالم عظيمة، تشكل أطلال ذاكرة من يحيا في هذه المدن والبلاد، وفوق كل ما سبق، لمدننا في المشرق مزية إضافية، وعنصر قلما تجده في غيرها، يتمثل في ما يعيشه أبناؤها من آلام، ويكابدونه من هموم، ويذرفونه من دماء للدفاع عنها، وتحريرها، فلا تجد مدينة في المشرق عامة، وفي بلاد الشام، وفلسطين على وجه الخصوص، إلا وقد جاهدت لنيل حريتها ومحاربة عدوها سنين طويلة، وذرفت في سبيل ذلك سيولًا من الدماء الزكية، وما فتحت أبواب الحرية عليها إلا بالأيدي المضرجة بالدماء، والمضمخة بالإباء.
وغزة العزة نموذج حيّ لهذه المدن والمناطق، وهي مثل أخواتها في فلسطين ما زالت تواجه المحتلّ الغاشم، وتغالبه بما لديها من أدوات، وعدوها تدعمه القوى الكبرى، وتقف خلفه وتدفع له أدوات صموده، وتمده بعدة القتل وعتاد العدوان، ومع ذلك تظلّ غزة صامدة على الرغم من روائح الموت، وعظيم الرزء، وفداحة الخسارة، وها هي قطرات، لا بل شلالات دماء الشهداء، تسري في كل شارع وزقاق من القطاع المحاصر، والصبر ملح الناس ودثارهم.
بكل تأكيد ليست المحنة الأولى على غزة، والقطاع – وفلسطين- يعاني من الاحتلال منذ 75 عامًا، وفي كل عام ويلاتٌ متجددة، وعدوان لا ينتهي حتى يبدأ غيرها، والناس في غزة. أما القطاع فعلى صموده باقٍ، وجزء كبير من القاطنين فيه ممن انتقل إليه من مدن فلسطين وقراها، وكل واحدٍ منهم ما زال يحمل صورة منزله في وجدانه قبل النكبة، ومع كل عامٍ تظلّ الصورة راسخة، ولكن الأعوام لا تحمل إلا مزيدًا من القمع والتنكيل، ومع مرور السنوات، أصبحت الذكريات أكثر بعدًا، وأفق الأمل أكثر قتامة، إلا أنهم شعب لا يرضى بالضيم ويسكت عنه.
لقد قال أحد الشعراء في قصدية له:
نقاتلهم على عَطَشٍ وجُوعٍوخذلان الأقاصي والأداني نقاتلهم وَظُلْمُ بني أبينانُعانِيه كَـــأَنَّا لا نُــعــانــي
نُقَاتِلُهم كَأَنَّ اليَوْمَ يَوْمٌ*وَحِيدٌ ما لَهُ في الدهر ثَانِ
“نقاتلهم على عَطَشٍ وجُوعٍ ***وخذلان الأقاصي والأداني”، يصف هذا البيت واقع غزة بكل دقة، إذ تتشابه حروب غزة تشابهًا محزنًا، ولا يتغير فيها إلا ما يعانيه هذا الشعب من صلفٍ وعدوان، وما يواجهه من مشاريع ونكران، ولكن غزة جزء حيّ من فلسطين، تأبى الموت مهما استخدم المحتلّ، وتقاوم في سبيل الحرية، فهي تحتضن شعبًا قادرًا على المواجهة، يُبدع كل حينٍ طرق النضال، من صلب الوجع وما يكابدونه من حصار، فهم على غرار ما ذكرته الأساطير الماضية، عن ذلك الطائر الفريد، الذي ينبعث مجددًا من رماد احتراقه. شعب ليس من أساطير الأولين، ولكنه يقف منفردًا في وجه احتلال، تتسابق دولٌ وأنظمة لتخطب وده، فاستطاع تحقيق المعجزة في زمنٍ انقطعت فيه الخوارق والمعجزات.
غزة ميراث دماء أبنائها، وصورة نادرة للصمود، ليسوا بدعًا من البشر، فهم لا يمتلكون طاقة خارقة، فلهم أفئدة منكسرة، وأجنحة مهيضة، وفلذٌ سبقتهم إلى الجنان، ولكنهم صامدون يحتسبون الأجر عند الله، وميراث صمودهم عبقٌ بأعز ما في هذه الدنيا، بعبق الشهداء، ولعمري كأن هذه الأرواح المزهقة تتشابك في العلياء، وترقب غزة وفلسطين من جنات الخلود، من هناك بدأت المسيرة، وإليهم ستنتهي، طريقٌ لا يعرفه الظالمون، وخلودٌ لا يكدر صفوه موت، وقوافلهم متتالية بلا توقف.
وهنا تتضح لنا فكرة بالغة التجرد، أن الدماء هي التي ترسم خريطة التحرير، وأن الذي وقف ذات يومٍ حاملًا بندقيته ليقول للناس “هذا هو الطريق” يقف اليوم أبناؤه يلقنون العالم دروسًا في البذل والتضحية، ويواجهون القوى الكبرى بإمكانيات قليلة، ولكن بقلوبٍ مؤمنة، والخاسر من قعد عن نصرتهم في زمن الجدّ والعمل، والبوار لكل متخاذل، ولهم وحدهم كل العز والمجد..
1
 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى