لم تعد الأحداث العظيمة صعبة التصديق، فالمعجزات -إن صح التعبير- نراها رأي العين، إذ تحدث التحولات الكبرى في أزمنة قصيرة، فنحن نعيش في سنوات تكثفت فيها الأحداث بشكل لا يصدق، وكأن الأيام القليلة تحمل في طياتها سنوات متتالية من التطورات والتغيرات، فمن دحر الأمريكي من أفغانستان وعودة أصحاب البلاد إلى حكمها وإدارتها، ومن ثم المدّ العظيم في “طوفان الأقصى”، وتلك المشاهد الاستثنائية لنخبة المجاهدين وهي تمرغ أنف جيش الاحتلال، وصولًا إلى الانتصار المبارك والتحرير الميمون من الطاغية المجرم في سوريا، جميعها كانت أحداثًا خاطفة بالقياس مع أعمار الأمم، ولكنها محطات مفصلية، وكما شكلت نهاية حقبة بعينها، فإنها بلا شك ستفتح الباب أمام سلسلة من التغييرات، نترقبها في المديين القريب والبعيد.
ولا يستطيع الواحد منا، مهما حاول أن يكتب بموضوعية أن يُبعد شيئًا من الذاتية عن رؤيته للأحداث، وعن تلك السيرورة المتواصلة من التضحية، فعلى الرغم من حالة الوهن التي تعيش بها الأمة، إلا أنها لم تتوقف محاولاتها لكسر قيود الواقع المرير، وإزالة ما ران على صدرها من احتلال خارجيّ، أو طغيانٍ داخلي، وهو تاريخ طويل جدًا من التحرر، خاضته بلادنا منذ حقبة الاستعمار، ومن ثم استُعيد بأشكال وتسميات مختلفة، وعاد مع الربيع العربي الميمون مرةً ثانية، وبدأت بشائره بالإشراق مجددًا من سوريا، وسيعود الربيع إلى مرابعه بلا ريب.
ومع كثرة التحليلات التي رافقت انتصار الثورة على السفاح، واستعادة المبادرة على الرغم من كل محتلّ وداعم، وغلبة المخاوف على البعض في تجاوز واضح أحيانًا للحظة الراهنة، وسطوة الفرح الذي عمّ السوريين، وكل عربيّ ومسلم حرٍ، وسيل الأسئلة الذي لا يتوقف، أجد أن هناك جانبًا يغيب كثيرًا في جل الأطروحات بعد سقوط طاغية دمشق، ألا وهو تغييب الجانب القدريّ، والمعية الربانية في الأحداث الكبرى، وما يتصل بالمفاجأة لكل الأطراف الفاعلة، وهو ما يعني أن التحليل السياسي يظلّ قاصرًا وغير قادرٍ على تفسير هذه الأحداث بشكل كامل، وفي النهاية سيلجأ -البعض- إلى سردية “المؤامرة”، أو أن الدول الكبرى هي التي ارتضت التسليم، وأن الانتصار لا يُمكن إلا أن يتم برضى الأطراف القوية.
وعلى الرغم من أن هناك بعض الوجاهة وجزئيات يُمكن أن تصدق في السرديات السابقة، إلا أنها بمجملها تتجاوز حيثيات بالغة الأهمية، وتقفز عن الفاعلين في الميدان، والظروف التفصيليّة للمجتمع والبيئة السوريين، وما قدمته هذه الثورة من تضحيات يُعد استثنائيًا بكل المقاييس.. وصولًا إلى الأسباب الّدنيّة، والمعية الربانيّة، وهو توفيق من الله تعالى يكون على شكل فرصة تاريخيّة وتغيرات سريعة، أو على شكل الاستمرار في الصمود والمواجهة، وفي أحيانٍ أُخرى بالثبات على الموقف ولو في شعب الجبال، والكهوف الغائرة، وبكل تأكيد يتمثل كذلك بالشجاعة في اللحظات التاريخيّة وعدم الوقوف عند القواعد المصطنعة، وإحداث طوفان يردع العدوان، بل ويستطيع قلب الطاولة على الجميع، ونماذج ذلك كثيرة جدًا، لا تحتاج كثير بيان وإيضاح.
أعود للذات، وعن تلك اللحظات المبهجة والتي كانت ممزوجة بشيء من الذهول في بداية الحدث، عن الخبر الجميل الذي أعاد أحلامًا قاربت من الأفول، عن ذلك الصوت الذي يُعلن فرار الطاغية، وتحطيم تماثيل والده المجرم، وأخيه القذر، عن تنفس الناس الصعداء، وقدرتهم على التعبير أخيرًا، عن خلع أقفال السجون، وخروج المعتقلين المقهورين بعد سنواتٍ متطاولة، توقف عندهم الزمن، عند أحداثٍ يومية أترعت بالموت ألف مرة قبل الوصول إلى حبل المشنقة، عن يومٍ جديد حمل للسوريين فرحًا وبهجة وسرورًا، وإني من بلادٍ لها مع هذا النظام المجرم ثأر، فكنت كما أهلي وخلاني من مختلف المدن السورية، أستشعر تلك اللحظات العجائبية، ولي في الثورة رحم صداقة، وأواصر محبة، ولي أيضًا شهداء كرام، ما زالت أذرف عليهم الدموع العزيزة.
كانت التطورات أسرع من إدراكها مباشرةً، فأزمنة الموت قد أشعرتنا بأنها لن تنتهي، أعرف حق المعرفة بأن المنطقة لن تكون قادمة على عصرٍ ورديّ، ولكن المشاهدات التي أعقبت التحرير تزلزل كل ذي وجدان، وما كنا نعرفه عن سجون النظام المجرم، وما وصل إلينا من مشاهدات وما سطره الأدباء، لم يكن إلا قشرةً خارجية لأهوالٍ أكثر بشاعة، فمدن السجون التي تُكتشف تفوق قدرة العقل على تصور بشاعتها، وطرق الموت والتخلص من جثامين الشهداء، يأنف عنها إبليس بنفسه، وفوق كل ذلك كل فرع أمن له سجونه الخاصة، وأقبيته السحيقة، وكلّ من قدّر الله له النجاة في هذه الأيام أو فيما سبق يروي ما تشيب له الولدان، فتتحول أمامها رواية “القوقعة”، إلى ما يشبه المختصر الترويجي للأفلام “تريلر”، والحقيقة أكثر رعبًا بألف مرة من الواقع.
ها هي سوريا الحرة الجديدة تعيش أعراس النصر في الجمعة الأولى لهذا النصر، بعد دحر الطاغية، وبلا ريب ستظل بلاد الشام “جؤنة” تغيير قادم، تفوح بعبق التضحيات المجلجلة، وشذا البطولة، وعطور الدماء الزكية لمئات الآلاف، ودعوات الأمهات في ليالي التهجير المريرة.. لن يتوقف مدّ الحرية وستستمرّ من دمشق وحلب وإدلب، مرورًا بطرابلس وصيدا، وصولًا إلى القدس وجنين وغزة، فهذي البلاد هي شام الرسول، ومنها الشآم والعزة والعنفوان، وإنسانها المجبول بالحركة والبذل، سيظل قادرًا على النهوض وإحداث التغيير، مهما تطاولت سنين القيد على معصميه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنَّ الإيمانَ حين تقعُ الفتنُ بالشَّامِ)، فهي أرض يُمن وإيمان، وستظل كذلك على الرغم من كل الصعوبات والتحديات..