يظن المرء نفسه قد عاش في بيئة شهدت الكثير من الأحداث والتطورات، وعاش خلالها تحدياتٍ، وخبر أهوالًا لا قبل للناس بها، فمن الاقتتال الداخلي، أو عدوان الاحتلال في محطات عديدة، وعلى سنواتٍ متباعدة، ومن ثمّ الانهيار الاقتصادي، وانفجاراتٍ مزلزلة، وغيرها من أحداث عشتها على الأقل في لبنان، وخبرت بعضها الآخر عبر المتابعة في الشاشات أو وسائل الإعلام، وما حملته كلّ واحدةٍ منها من مشاعر وآلامٍ واختناقات وإخفاقات، كنا نظن في تلك اللحظة المُعاشة، أننا وصلنا إلى أقصى درجات الكمد والألم والضيق، ولكنها لم تعدُ أن تكون محطة في مسار طويل من الأحداث…
هذا المسار الطويل، وهذه الحياة “غير الآمنة” بتعبير الراحل شفيق الغبرا، لا تُعدّ شيئا ذا بال أمام ما عاشه أترابنا في سوريا وغزة والسودان وغيرها من بلادنا المكلومة، إذ لا تفتأ تُظهر لنا هذه الدنيا بأن ما عشناه لا يمكن مقارنته بالآخرين، ولا أقصد هنا مقارنة جرحٍ بجرح، والمفاضلة بين ألمٍ بآخر، أو أن ذلك الدم أزكى وأرفع من تلك الدماء، معاذ الله، كيف وهذه الدماء المدرارة لم تدع شبرًا من بلادنا إلا وأترعته بشذا من عبير الشهادة والتضحية.. ولكنني أعني هنا بأن خبراتنا تلك تتضاءل أمام ما يقاسيه إخواننا في كل أرضٍ ومكان، وأننا جميعًا معرضون لمثل ذلك الضنك..
ترد مع المرء خلال قراءاته نصوص لا يدري معناها، أو لا يسبر أغوارها حقًا، ولا تتكشف له حجبها إلا في مثل هذه اللحظات المفصلية، ومن تلك النصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأنه “يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ. ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ”.
كنت كثيرًا ما أتعجب من الحديث، فأقول في نفسي لا ريب سينسى المؤمن ما مرّ فيه، وهو يرى ذلك النعيم، ويُغمس تلك الغمسة في الجنّة، فما كان يتصور الواحد منّا أن يجتمع على الإنسان، خوفٌ وشدة وجوع وحصار، وفوق ذلك إجرامٌ وحشي يستهدف الآمنين آناء الليل وأطراف النهار، ويقتلهم زرافاتٍ ووحدانا، لذلك ما رأينا ضرًا قطّ، فمهما مرّ علينا من مصاعب ومتاعب وآلام، لا تبلغ معشار ما يكابده أهلنا في القطاع، وقد هزتني عبارات الحاج الجريح الذي خرج لتوه من تحت الأنقاض، وهو يقول “العالم يشاهدنا ونحن نموت”..
يعاني أهلنا الأكارم في غزة أيما معاناة، فكل مشهد نشاهده في وسائل التواصل يقف خلفه قصص مؤلمة، ومشاهد مفزعة، عن الأحلام التي أبيدت، وداست عليها دبابات الاحتلال وجرافاته، وعن آلاف الشهداء والطاقات التي خسرناها، وعن حصارٍ مرّ تنقله الشاشات جهارًا نهارًا، وعن تكالب العدو وداعميه، وعن تآمر وعجز، وعن ألف ألف حسرة أخرى.
ما رأينا عذابًا قط، وإخواننا يعانون ما يعانونه من جوع وآلام، وكل فلسطيني في غزة قد فقد أعزاء وأقارب، بل أبيدت عائلات بأكملها..
ما خبرنا بؤسًا قط، ونحن نعيش مع ذوينا وأهلنا وأبنائنا، وإخواننا في القطاع قد فرقتهم دبابات الاحتلال، وقطعت أوصال أحبائهم طائراته وصواريخ داعميه.
ما أصابنا بلاء قطّ، ونحن نأكل أنواع الطعام، وأهلنا الكرام ينتظرون الساعات الطوال ليأخذوا حفنة من الطعام، يسدون بها رمق عشرات الجوعى، وهيهات أن تكفي..
ما ألمّ بنا حزن قط، والأطفال في القطاع قد عاشوا لحظات الرعب، عندما قتل جنود الاحتلال الأب والأم الحامل، ثم يسوقون من بقي منهم إلى المجهول…
ما عشنا ضنكًا قط، ونحن نحلم بتناول حبة خضار أو فواكه بعد أشهر طويلة من الحرمان…
ما عشنا خذلانًا قط، ونحن أمة عاجزة عن الفعل، لم تستطع أن تفتح الحدود، ولا أن تكسر القيود، ومئات الآلاف من إخواننا يلتحفون الأرض ويفترشون السماء…
ما اعترتنا الخطوب والكوارث، وقد اجتمع على غزة ما اجتمع، وتظلّ كل كلمة قاصرة عن وصف القهر الذي تختزنه قلوبهم..
يعاني أهلنا ما يعانونه، ولكنهم أمام وعد الباري بالعفو والغفران، و”الغمسة” في النعيم بمنّ الباري تعالي، ولكننا نحن جموع الصامتين، الذين غُمسنا في الخذلان، نشاهد البطولة ونصفق لها، ونشاهد الشدة وأقسى ما نقوم به دمعة منفردة في لحظة تجلٍ، وفي كثير من الحالات حوقلة وحسبلة، ثم نعود إلى ما نحن فيه…
غزة تحتاج الكثير من الفعل، ونحتاج منهم الكثير من الغفران..